«وهج الرؤى».. نجوى رحمون تكتب الشعر العمودي بلغة فلسفية ووجدان إنساني

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – هويدا محمد مصطفى:

صدرت للشاعرة نجوى رحمون مجموعتها الشعرية الخامسة بعنوان «وهج الرؤى» التي تحمل بين دفتيها حوالي 43 قصيدة شعرية، تنتمي جميعها إلى الشعر العمودي، حيث تنوعت القصائد بين الوجداني والإنساني والوطني والغزلي، واختلفت بحورها الشعرية.
لقد استوقفني العنوان «وهج الرؤى» بوصفه العتبة الأولى للدخول في عوالم المجموعة، لتأخذنا الرغبة في استثارة الجماليات والرؤى النصية التي تمنح القصيدة طابعاً جمالياً وعمقاً متميزاً، فالعنوان يأخذك إلى عالم ينساب مع الروح، ونجد أن هناك نزعة فلسفية توازي ذلك الحس الصوفي الذي يتوافر داخل القصائد، ليُجسِّد لحظات بعينها من خلال مفرداتها الخاصة الممتزجة بالنزعة الفلسفية، تعتمد القصيدة على بساطة العبارة ووضوحها، والتماس الشعر في المعنى الكلي المنبثق من حالة التأمل أو الإعلاء بالصور البلاغية وتداخل المشاعر في المعاني. هنا، تعلو حالة من الوجد والتوق، وهو اختيار جميل يتناسب مع الحالة ودرجة العمق والانزياح نحو الخيال الذي أخذتنا إليه الشاعرة.

تمثل الأسطر الشعرية في هذه وهج الرؤى لوحة فنية مكتملة

تبدأ المجموعة بقصيدة بعنوان «يا قارئي»، لتقول:
يا قارئي
عف أبهمَ
وهج الرؤى
إذ أكتبا
يا فكر
أمسح دمعتي
سحبوا الكرى
يا فكر دعني أهتدي
ذهني
وما كان الردى
قلبي
ولكن أقهرا
يا فكر انسى
حيث أحضن كلمتي
وأرى حروفي
حين أدفن بالثرى
لا شكَّ في أن الفعل الجمالي والإبداعي ينطلق أساساً من ذلك التوهج والاشتعال الذي يثيره السؤال، أو مجموعة الأسئلة التي تعتمل في ذهن الشاعر، الذي يعيش معها حالة من الصراع الدائم بحثاً عن الإجابة. فالقصيدة تشريح كلي لواقع ممتد، تتخلله فلسفة الألم بأزمنة الفوضى الضائعة، وتلك الدوامة التي تحيط بالذات والمشاعر القلقة، عبر تركيب تصويري وانتقاء مناسب للألفاظ واءم الحالة الوجدانية التي تعيشها الشاعرة، كما في قصيدة “دع الدنيا” حيث تقول:

هِيَ الأَفْرَاحُ فَاتْرُكْ مَا لِدُنْيَا
وَسَانِد بِالدُّعَاءِ مَرْضَي الشَّقِيَا
دَعِ الدُّنْيَا فَلَا تَعْتَبْ عَلَيْهَا
وَإِذَا نَامَتْ جُفُونُكَ يَا غَبِيَّا
وَإِنْ رَاقَتْ لِرُوحِكَ أَوْ لِرُوحِي
فَمَا كَمُلَتْ لَدَيْكَ وَلَا لَدَيَّا
تَصَبَّرْ عَنْ لَظَى الدُّنْيَا بِدُنْيَا
مِنَ الأَشْعَارِ تَجْلُو المَيْتَ حَيَّا

هنا نجد الحكمة وهي نداء وتداعيات بمفاهيم وتقابلات ورؤية عالية. فالشعر ثورة الكلمة ولغة القافية التي لا تفتأ تطرح ملء الشاعرية، وترسم ملامح الوجود والموجود، وتترجم الخير والشر في الإنسان، وتكشف أعماق ذاتية الشاعرة التي تخلق من أبجدية مشاعرها وآلامها وآمالها وطموحاتها مادة هلامية تشكل منها صوراً تخيلية تلونها بأساليبها البلاغية والمجازية. فكل قصيدة وكل مشهد يحكي عن جانب من جوانب الواقع، حيث استهلت الشاعرة قصيدتها بضمير المتكلم لتلُفَّ هذه الأنا حبال الرؤية والرؤى حول أعناق الكلمات.

وفي قصيدة بعنوان «بوح» تقول الشاعرة:
كَمْ تَعَالَتْ بِي هُمُومٌ فِي المَسَارِ
وَصَفَا دَمْعِي عَلَى جَفْنِ السِّتَارِ
وَسَمَتْ عِنْدَ النَّدَى رُوحَ الجَوَى
وَغَدَا الطِّيون انْبَاتَ البَوَارِ
وَتَهَادَتْ فِي رِحَابِي أَعْيُنٌ
وَهَمَى فِي مُقْلَتِي غَمْزٌ وَثَارُ

هنا نجد الصور البيانية والعاطفية تتجه باتجاه الانزياحات الدلالية المعنوية، ما يحيط النص بفضاءات عاطفية وفلسفية تنسجم مع أرواح المعاني من حيث القلق والاضطراب. كما نجد استخدام مفاتيح قراءة النص كبنية فنية مدروسة ومتقنة، وكمحتوى معنوي متكامل واضح الرؤيا ومتسق الأفكار، بلغة متحررة تلامس برهافة مشاعرنا، حيث تتحدد في النص مواقع الكلام في صور تخيلية بين الإرسال والاستقبال. إنه ذلك الدفق الموسيقي المليء بالانفعال العاطفي عبر صورة شعرية هادئة.

وفي قصيدة بعنوان «العيد عندك يا دمشق» تقول:
العِيدُ حُدّد في حِمَاكَ وَهَلَّلا
وَمَضَى إِلَيْكَ يُزَفُّ تبركة العُلَا
نَادَى بِعِزِّكَ يَا دِمَشْقَ مُهَنِّئًا
بِسَلَامِ غُوطَتِكَ الأَمَانَ مجلّلا
لاقى على عطر الورود صباحهُ
فجرٌ تجلّلَ بالصباح مُكملا
حمداً بداهُ يرى الكفايةَ حاجة
وَالْحَقُّ أَبْلَجُ في الجموعِ موغلا

هنا ترتقي الشاعرة بحروفها مع حبها للوطن، والتغني بجماله، ودعوة لتبقى راية النصر مرفوعةً معطَّرةً بياسمين دمشق.
وأخيراً، من خلال قراءتي للمجموعة الشعرية «وهج الرؤى»، وجدت أن الشاعرة لديها لغة تبني نفسها، وتبتكر وسائل تعبيرية تتنوع فيها حسب معناها الخاص المتشعب، الممتلئ بالنضوج والحس الإنساني والفكر العميق، ومزجهما بالوجدان الصادق.
المجموعة صادرة عن دار بعل للطباعة والنشر.

الوسوم:
Leave a Comment
آخر الأخبار