الحرية- يسرى المصري:
لم تكن زيارة الرئيس أحمد الشرع للكنيسة المريمية في دمشق مجرد صورة إعلامية. لقد كانت خطاباً وطنياً متكاملاً، ناطقاً باسم تاريخ سوريا العريق ووحدتها المصيرية. لتأكد أن روح “العهدة العمرية” التي أسست للتعايش في بلاد الشام، ما تزال حية في ضمير الأمة السورية، وقادرة على الصمود في وجه أعاصير التطرف والتقسيم. وهي بيان صريح بأن قوة سوريا تكمن في انتماء أبنائها المتكافئين إليها، يجمعهم مصير مشترك ووطن واحد لا يتجزأ.
زيارة الرئيس الشرع أكثر من بروتوكول.. رسالة لأصالة التعايش بين المسلمين والمسيحيين
السيد الرئيس أحمد الشرع التقى غبطة البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس في الدار البطريركية، واطّلع خلال اللقاء على أحوال أبناء الطائفة المسيحية.. وفي سجل الكنيسة سجل الرئيس الشرع كلمات تنم عن فهم عميق لاستمرارية الوجود المسيحي المتنوع والغني في بلاد الشام كتب:
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
دمشق لهي أول عيش مشترك عرفته البشرية،
ودوام ذلك عهد وميثاق وواجب، كل الحب.
الرئيس أحمد الشرع.
المشهد والوجوه الطيبة ومناخ المودة والاحترام والصور الجميلة حمل دلالات عميقة تجاوزت حدود الطقس الرسمي، ومثلت زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الكنيسة المريمية بدمشق، إحدى أقدم الكنائس المسيحية في العالم، لحظةً فارقة في تعزيز نسيج الوحدة الوطنية السورية.
لم تكن هذه الزيارة مجرد بروتوكول دبلوماسي أو مناسبة رسمية عابرة، بل كانت رسالةً قويةً موجهةً للداخل السوري أولاً، وللعالم ثانياً، مفادها أن سوريا باقية بأهلها جميعاً، مسلمين ومسيحيين، وأن التعايش الذي تأصل عبر القرون هو أقوى من كل محاولات التفتيت.
دمشق عبر عمقها التاريخي والحضاري.. ترفض منطق التقسيم وتتمسك بوحدتها الوطنية كخط أحمر
وعكست الزيارة ولقاء البطريرك يوحنا العاشر اليازجي الحرص المشترك على ترسيخ القيم الوطنية وتعزيز التلاحم بين أبناء الوطن بالعودة والسند إلى الأسس التي وضعتها العهدة العمرية. تلك الوثيقة التي كانت أكثر من مجرد اتفاقية ؛ كانت رؤية حضارية تقوم على مبدأ “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”. وأسست لشراكة إنسانية وحضارية استمرت لقرون، جعلت من بلاد الشام نموذجاً فريداً للتنوع والتعددية.
لذلك تبقى العهدة العمرية إرثاً إنسانياً مشتركاً، تذكرنا بأن التعايش ممكن عندما تقوم العلاقة على أسس من الاحترام المتبادل والعدالة والحرية.
تمثل العهدة العمرية، تلك الوثيقة التاريخية التي تمت بين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبطريرك القدس صفرونيوس عام 15 هـ / 636 م، لحظة فارقة ليس فقط في تاريخ الفتوحات الإسلامية، بل في تاريخ العلاقة بين الإسلام والمسيحية، وفي تشكيل النسيج الاجتماعي لبلاد الشام لقرون قادمة. فهي لم تكن مجرد اتفاقية ، بل كانت إعلاناً لمبدأ تأسيسي جديد قائم على التسامح والعدالة والمواطنة المشتركة، ما أسس لاستمرارية وازدهار الوجود المسيحي في المنطقة.
لم تكن العهدة العمرية مجرد حبر على ورق، بل طبقت مبادئها بشكل كبير عبر العصور الإسلامية المختلفة، وكان لها الأثر العميق في استمرار وتطور الوجود المسيحي في بلاد الشام.
وضمنت الاستمرارية الديموغرافية فبفضل هذه الحماية، استمر المسيحيون في العيش في مدنهم وقراهم في سوريا، فلسطين، لبنان، والأردن، مشكلين جزءاً أساسياً من النسيج السكاني. لم تشهد المنطقة تهجيراً قسرياً للمسيحيين كما حدث في أماكن أخرى من العالم.
مستقبل سورية يقوم على الاعتراف بتعدديتها وتأكيد وحدة نسيجها الاجتماعي وهذا المبدأ غير قابل للمساومة
أصبح المسيحيون، تحت مظلة العهدة العمرية، شركاء في بناء الحضارة العربية الإسلامية. والإثراء الحضاري فقد برزوا كعلماء في الطب والترجمة والهندسة واللاهوت، وساهموا بشكل كبير في حركة الترجمة ونقل المعارف من اليونانية والسريانية إلى العربية.
شكلت العهدة العمرية النموذج العملي للتعايش بين الأديان في دولة الإسلام. وأسست نموذج للتعايش فأدرجت المسيحيين كـ “أهل ذمة” أي أهل عهد وأمان، لهم حقوق وعليهم واجبات، وهو ما مكنهم من الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية المميزة مع الاندماج في الحياة العامة للمجتمع.
وبفضل بنود الحماية تم الحفاظ على التراث المسيحي ، وتم الحفاظ على الكنائس والأديرة المسيحية العريقة في بلاد الشام، والتي ما تزال قائمة حتى اليوم كشاهد حي على هذا التاريخ الطويل.
لماذا الكنيسة المريمية؟
تكتسب الكنيسة المريمية، في العمق التاريخي والرمزي التي تعود أصولها إلى القرون المسيحية الأولى، أهميةً استثنائيةً. فهي ليست مجرد مكان للعبادة، بل هي معلمٌ حيٌ من معالم دمشق التاريخية، وشاهدٌ على تاريخ سوريا المشرق كملتقى للحضارات والأديان.
باختيار هذا الموقع تحديداً، أراد الرئيس الشرع التأكيد على عدة رسائل في مقدمتها استمرارية الدولة السورية وانفتاحها على جميع مكونات شعبها، في مواجهة محاولات تصوير الأزمة على أنها حرب طائفية.
ورفض منطق التقسيم في وقت تسعى فيه بعض الأجندات الخارجية والمشاريع الإقليمية إلى تمزيق النسيج الوطني السوري، جاءت الزيارة لتؤكد أن دمشق، عبر عمقها التاريخي والحضاري، ترفض هذا المنطق وتتمسك بوحدتها الوطنية كخط أحمر.
وجسدت معالم المواطنة الكاملة فكان استقبال الرئيس الشرع في الكنيسة تأكيدٌ عملي على أن المسيحيين السوريين شركاء كاملو الحقوق والواجبات في الوطن، وليسوا أقلية أو طائفة منعزلة، بل هم جزء أصيل من هوية سورية الجامعة.
السياق الوطني
جاءت زيارة الرئيس الشرع أيضاً كرد على “الفوضى الخلاقة” في ذروة الضغوط الدولية والإقليمية على سوريا، وفي خضم حرب إعلامية شرسة حاولت طمس الهوية الوطنية السورية المتنوعة. في هذا المناخ، كانت الزيارة تأكيداً على ثقافة التعايش السورية ولطالما اشتهرت سوريا بنموذجها الفريد في التعايش بين الأديان والمذاهب. الزيارة كانت تذكيراً بهذا الإرث الحضاري الذي ترفض الدولة والشعب التخلي عنه.
ومقابل خطاب الكراهية وكمواجهة للخطاب الطائفي المتصاعد إقليمياً، قدمت الزيارة نموذجاً مضاداً يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالآخر والاحتفاء بالتنوع ضمن إطار الوحدة الوطنية.
بهذه الخطوة، أرادت الدولة السورية الجديدة إرسال رسالة طمأنة للداخل، مفادها أن الدولة تقف مع جميع أبنائها، وتعمل على حماية هذا النموذج الوطني من الانهيار.
تتجاوز دلالات زيارة الكنيسة المريمية اللحظة الراهنة لتنفتح على المستقبل مؤكدة على أسس المصالحة الوطنية فأي مشروع لمستقبل سورية يجب أن يقوم على الاعتراف بتعدديتها وتأكيد وحدة نسيجها الاجتماعي. وهذه الزيارة هي إشارة إلى أن هذا المبدأ غير قابل للمساومة.
لا شك أن بناء سورية الجديدة يحتاج إلى إعادة إعمار ليس فقط الحجر، بل والبشر. وتأكيد قيم الوحدة الوطنية والتعايش هو حجر الأساس في هذا المشروع.
واليوم تبدو صورة سورية في العالم وفي وجه الحملات التشويهية، تقدم هذه الزيارات الصورة الحقيقية لسوريا، كدولة تحافظ على تنوعها وترفض أن تكون ساحة لصراعات الآخرين.
العهدة العمرية
وثيقة التسامح والعدل في فتح بيت المقدس.. في العام 15 هـ (636 م)، وبعد انتصارات المسلمين في معركة اليرموك ومعارك أخرى، توجه القادة المسلمون، وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص، لفتح بيت المقدس، التي كانت تُعرف آنذاك بـ”إيلياء”. بعد حصار دام أربعة أشهر، طلب أهل المدينة الأمان مشترطين تسليمها للخليفة عمر بن الخطاب شخصياً. استجاب عمر لطلبهم، وسافر إلى بيت المقدس، حيث استقبله البطريرك صفرونيوس وكبار الأساقفة.
في هذا اللقاء، وُضعت العهدة العمرية، التي أمنت فيها حقوق أهل إيلياء، وضمنت لهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، مع التأكيد على عدم إكراههم على دينهم، وعدم مساكنة اليهود لهم في إيلياء.
نص العهدة العمرية
“بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانـاً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ أنه لاتسكن كنائسهم ولا تهدم ولاينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضام أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم (ويخلى بيعهم وصلبهم) ، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم ، حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لايؤخذ منهم شىء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية . وكتب وحضر سنة خمسة عشرة هـ . شهد على ذلك: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان .
تُظهر هذه الوثيقة مدى التسامح والعدل الذي انتهجه المسلمون مع أهل الكتاب، ما جعلها واحدة من أهم الوثائق في تاريخ القدس وفلسطين.