الصحافة بين خوارزميات القراءة ومعايير العمق والمعنى

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية ـ حسين الإبراهيم:

  • ماذا يحدث حين تُقيّم الحقيقة بعدد الكلمات؟
  • لماذا تُقصى المقالات العميقة من نتائج البحث رغم حاجتنا إليها؟
  • كيف يمكن للصحفي أن يكتب ضد الهيمنة الخوارزمية وهو خاضع لتحليلها؟

حين كتبت عن الهيمنة الخوارزمية، كنت أظن أنني أواجهها بالنص، بالمفهوم، بالتحليل. لم يخطر ببالي أن مقالاً يحذّر من استعمار الخوارزميات سيتناقض أو ينسجم بدوره مع التحليل الخوارزمي. فهل يمكن للمعنى أن يُفهرَس؟ وهل تُقاس الجملة بعدد كلماتها أم بعمقها ومعناها؟
عندما تُقيّم الكتابة بما يُرضي محركات البحث، لا بما يُوقظ الفكر، يصبح الصحفي أمام معادلة عسيرة: أن يكتب ليُفهم، أم ليُظهر؟ أن يختصر ليُصنّف، أم يطيل ليُفكّر؟

بين الخوارزمية والمعنى: قراءة نقدية لتحليل Yoast

حين أخضعت مقالتي في الأسبوع الماضي “الهيمنة الخوارزمية تخترق السيادة الرقمية” لتحليل أداة Yoast SEO، ظهرت أمامي مؤشرات ملونة: الأحمر يحذّر، البرتقالي يقترح، والأخضر يطمئن. لكن خلف هذه الألوان، كان سؤال أعمق يتشكّل: هل يمكن لمقال ينتقد استعمار الخوارزميات أن يُقيّم بمنطق خوارزمي؟ وهل تصلح أدوات تحسين الظهور لتقييم نص يسعى إلى كشف آليات الهيمنة المعرفية؟
أشارت الأداة إلى أن 44 % من الجمل تزيد على 20 كلمة، متجاوزة الحد الموصى به. لكن هذه الجمل لم تكن مترهلة أو غامضة، بل كانت ضرورية لتفكيك مفاهيم مركبة مثل “السيادة الرقمية” و”الاستعمار بالإغراء“. الجملة هنا ليست مجرد وحدة قياس، بل بنية فكرية تحمل طبقات من المعنى، وتقصيرها قد يُفقدها قدرتها على الإحاطة أو التماسك.


كذلك، وُصفت إحدى الفقرات بأنها “طويلة أكثر من اللازم”، لأنها تجاوزت 150 كلمة. لكنها كانت تعالج تحولاً بنيوياً في السياسات الأوروبية تجاه البنية الرقمية، وتحتاج إلى تماسك سردي لا يمكن تفكيكه دون الإخلال بالمنطق الداخلي. أما استخدام المبني للمجهول، الذي بلغ 25.9%، فقد اعتُبر مقبولاً تقنياً، لكنه في السياق التحريري كان أداةً بلاغيةً واعيةً لتوصيف قوى غير مرئية أو متعددة الأطراف، لا تهرباً من المسؤولية.
هذه القراءة النقدية لنتائج Yoast تكشف عن فجوة بين ما تعتبره الخوارزمية “قابلاً للقراءة” وما يحتاجه النص ليكون “قابلاً للفهم“. إنها لحظة تأمل في طبيعة الكتابة الصحفية اليوم: هل نكتب لنُفهرس؟ أم لنُفكّر؟ وهل يمكن للصحافة أن تحافظ على عمقها دون أن تُقصى من نتائج البحث؟

حين تُخضع أدوات الهيمنة مقالاً ينتقدها

في قلب المفارقة، يقف مقال “الهيمنة الخوارزمية تخترق السيادة الرقمية” كمثال حي على التناقض البنيوي بين المضمون والشكل. فالمقال، الذي يحلّل كيف تتحوّل الخوارزميات إلى أدوات استعمار معرفي، خضع بدوره لتحليل خوارزمي يُقيّم جُمَله وفقراته وفق معايير لا تعترف بسياقه التحريري ولا بطبيعته التأملية.
هذه المفارقة ليست تقنية فحسب، بل فلسفية أيضاً. إذ كيف يمكن لأداة تُصمم لتسهيل الوصول أن تُقصي النصوص التي تسعى لفهم آليات السيطرة الخفية؟ وهل يمكن أن تُخضع أدوات الهيمنة مقالاً ينتقدها دون أن تُفرغه من محتواه؟ إنها لحظة يتداخل فيها الشكل والمضمون، حيث يُطلب من الكاتب أن يختصر الجملة التي تكشف الهيمنة، وأن يُجزّئ الفقرة التي تشرح آلياتها، وأن يُخفف من المبني للمجهول الذي يصف غياب الفاعل في منظومة السيطرة.
النتيجة ليست فقط تراجعاً في ترتيب المقال ضمن نتائج البحث، بل هي تراجع في قدرته على أداء وظيفته المعرفية.

حين يُطلب من الصحفي أن يكتب بما يُرضي الخوارزمية، لا بما يُفككها، يصبح التحرير نفسه خاضعاً لمنطق الهيمنة الذي يسعى إلى فضحه.

كيف نكتب للظهور دون أن نخون المعنى؟

في مواجهة أدوات تقيس النصوص بعدد الكلمات لا بوزنها الفكري، لا يكون الحل في رفض التقنية، بل في إعادة توظيفها. فالصحفي المعاصر لا يملك رفاهية الانفصال عن شروط النشر الرقمي، لكنه يملك القدرة على تطويعها دون أن يتنازل عن جوهره التحريري. وهو ما يعني تحقيق التوازن بين العمق والظهور، من خلال تقسيم الفقرات دون تفكيك الفكرة، واستخدام الجمل الطويلة بوعي تركيبي، واستخدام المبني للمجهول كأداة بلاغية لا تقنية، واعتماد الكلمات الانتقالية كجسور فكرية لا مجرد مؤشرات SEO، وتحقيق الوضوح كاتساق لا كتسطيح.

هل نكتب لنُفهرس أم لنُفكّر؟

عندما تُقيّم الجملة بعدد كلماتها، وتُصنّف الفقرة بلونٍ أحمر أو أخضر، يصبح فعل الكتابة مقاومة صامتة. فالصحفي الذي يكتب عن الهيمنة الخوارزمية، ثم يُطلب منه أن يُقصّر جُمله كي تُرضي خوارزمية أخرى، يعيش مفارقة وجودية: أن يُفكّر بعمق، لكن يكتب بخفة؛ أن يُحلّل بنية السيطرة، لكن يصوغ وفق شروطها.
ليست الصحافة مجرد محتوى قابل للفهرسة، بل هي مشروع معرفي يسعى إلى إنتاج المعنى، لا مجرد ترتيبه. وإذا كانت الخوارزميات قد نجحت في تنظيم العالم الرقمي، فإنها لم تنجح بعد في تنظيم الفكر. وهنا يكمن الأمل.

ربما لا تقرأ الخوارزمية نبرة القلق في الجملة، ولا ترى في الفقرة الطويلة مقاومة. لكنها تُقيّم. ونحن نكتب. نكتب لأن المعنى لا يُختصر، ولأن الفكرة لا تُقاس، ولأن الصحافة، في جوهرها، ليست ما يظهر أولاً في نتائج البحث، بل ما يبقى في الذاكرة حين تُغلق كل النوافذ.
Leave a Comment
آخر الأخبار