من الفينيقيين إلى الرومان.. رحلة في مدافن عازار عبر ألف عام من التاريخ

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية – ثناء عليان:

تقع مدافن عازار إلى الجنوب من مدينة طرطوس، وتبعد عنها حوالي 5 كم، مقابل جزيرة أرواد التي يعتقد أنها تعود لسكانها، لأن مساحة الجزيرة المحدودة لا تسمح بإنشاء مثل هذه المدافن ولعدم مشاهدة أي أثر لمدافن في الجزيرة معاصرة لعصر المدافن تلك (زمن العصر الروماني القديم، وذلك حسب دراسات قام بها العالم الأثري أرنست رينان عام 1860، كما لم تكتشف آثار لمدينة شيئاً يمكن أن تعود إليها مدافن عازار.‏
عن هذه المدافن وقصة اكتشافها بيّن رئيس دائرة ٱثار طرطوس المهندس مروان حسن، أنه لم يعرف من أين جاءت هذه التسمية للمنطقة، إلاّ إن الناس كانوا يتناقلون اسم مدافن عازار من جيل إلى جيل. أما اكتشافها فكان أثناء تشييد مرفأ طرطوس منذ عام 1965، عندما كان القائمون على التشييد ينقلون الرمال من تلك المنطقة، ولم يكن يعلم أحد أن تحت تلك الرمال ترقد مدافن أثرية كبيرة وهامة جداً. فكلما ازداد نقل الرمال هناك كانت تظهر معالم جديدة من المدافن، لهذا السبب قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف آنذاك بإيفاد المختصين والقيام بالتنقيب ودراسة المكان.‏

مدافن عازار التاريخية‏..

تعود مدافن عازار -حسب حسن- إلى فترات تاريخية متعددة امتدت من الفترة الفينيقية وحتى الفترة الرومانية مروراً بالفترة اليونانية، وقد لاقت هذه المدافن اهتماماً كبيراً من المديرية العامة للآثار والمتاحف، وأجرت فيها العديد من مواسم التنقيب، أدى ذلك إلى كشف مجموعة من المدافن الجماعية والقبور الفردية، عثر في عدد منها على توابيت رصاصية مزينة بـ «عناقيد العنب» و «آلهة النصر» أو «ربة النصر»، وعثر في بعضها الآخر على توابيت خالية من الزخارف، وقد فسر هذا بحسب الباحث «أرنست» أن احترام الميت لا تترجمها الإشارات أو المظاهر الخارجية على التابوت، وإٍنما تجلى احترامه في الأشياء الفاخرة الموضوعة داخل هذه التوابيت، مثل الجواهر ووريقات ذهبية تأخذ شكل النظارات على العيون، وعصابة الرأس الذهبية.‏

الوصف المعماري..

وأشار حسن إلى أن المدافن المكتشفة التي تزيد مساحتها على 12 هكتاراً كانت محفورة ضمن طبقة من الصخور الرملية سهلة النحت تمتد على طول الشاطئ، ذات أنماط عديدة فردية مزدوجة وعائلية تعود إلى أواخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث بعد الميلاد ومنها ما يعود إلى العصر الفينيقي (مكتشف حديثاً)، متأثرة بمدافن عمريت المتقدمة عنها بما لا يقل عن خمسة قرون.‏
وعن النظام المعماري التي أقيمت عليه المدافن أكد حسن أنه كان واحداً تقريباً باختلافات بشكل السقف، وتضم المدافن العائلية مثلا طابقين أو ثلاثة ذات سقف هرمي أو سنمي يدلف إليها بواسطة باب حجري محكم الإغلاق يفتح بالسحب للأعلى ثم إلى درج غير منتهي النحت، وتضم غرفتين خصصت الداخلية منها لدفن رب العائلة والمتقدمة منها تضم ستة قبور ثلاثة منها في كل جانب لأفراد الأسرة، فالذين كانوا يدفنون ضمن توابيت خشبية أو رصاصية يبدو كأنهم عائلة متماسكة حتى في العالم الثاني متمسكة بآمال الخلود في بيت الأبدية، كما سماها التدمريون.‏
وجد حول المدافن بعض التماثيل، واللقى مثل الطاسات والقدور الفخارية، وبعض الوريقات الذهبية وقوارير العطور وحلي النساء والأحجار الكريمة وأدوات أصحاب المهن التي كانت تقدم كهدايا للمتوفين.‏

أنماط المدافن‏..

تتألف المقبرة من ثلاثة أنماط وهي: القبور المنفردة ذات اللحود الحجرية، والقبور المنفردة ذات التوابيت الفخارية، والمدافن العائلية.‏
وعن اللقى الأثرية المكتشفة‏ بين حسن أن لقى مدافن (عازار) تعود إلى أواخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث بعد الميلاد، من بين اللقى المكتشفة قاعدة نقش عليها ثلاثة عشر سطراً باليونانية، تنص (بقرار من مجلس الشيوخ قدم هذا التمثال لمرفأ صيادي الأرجوان المقيمين في المدينة تعبيراً عن تكريمهم ورعايتهم).‏
كما تمَ العثور على تمثال رخامي متوسط الحجم للإله باخوس خلال عملية نقل الرمال وهو عاري الجسد ويحمل بيده اليسرى ثوبه الفضفاض المتدلي حتى قدميه مع عنقودين من العنب يضمهما إلى صدره (ناقص الرأس)، وهو محفوظ في متحف طرطوس،‏ عرض هذا التمثال مع مجموعة من المكتشفات المحلية في قاعات المعرض الذي أعد في دمشق خلال انعقاد مؤتمر الآثار الكلاسيكية عام 1969.‏
وأشار حسن إلى وجود أنواع أخرى من اللقى بجوار المتوفين في المدفن مثل (القدور الفخارية، الأواني النحاسية، الوريقات الذهبية، ومشبك موشح بالذهب وخواتم ذهبية)، وقد ساعدت هذه اللقى بالتعرف على مختلف الصناعات التي كانت في تلك الفترة.‏

تماثيل حجرية‏..

كما تم العثور على تماثيل وتوابيت حجرية تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد أثناء عمليات ترحيل الأتربة والرمال، مثل تمثال من الرخام بشكل طفل عار ممتلئ الجسم ناقص الرأس يحمل بيده اليسرى عنقودين من العنب ورداء يتدلى على شكل شلال ماء، وقد تم العثور على تابوت حجري ذي رأس منحوت من ذات الحجر البركاني المعروف في «صافيتا»، إضافة إلى تابوتين مماثلين من الرخام، إضافة إلى بعض التماثيل التي عثر عليها متأثرة بالفن القبرصي، إضافة إلى الأقراط وتسريحة الشعر التي لاقت عناية خاصة أيضاً.‏

أعمال التنقيب..

بدأت أعمال التنقيب في الموقع -حسب حسن-منذ عام 1996 من قبل فرق فنية مختصة، ونظراً لأهميته استمرت الأعمال الموسمية حتى عام 2024، لكن بشكل متقطع بسبب عدم توفر الاعتمادات المالية اللازمة، وقد أسفرت عمليات التنقيب الموسمية عن الكشف على العديد من المدافن العائلية المميزة والهامة، بالإضافة إلى اكتشاف درج منحوت في الصخر الكلسي يقع ضمن جرف صخري كبير، وبقايا لأحواض صغيرة منحوتة في الصخر، وجرن حجري دائري الشكل في القسم الشرقي من هذا الجرف يرتكز على قاعدة حجرية متخربة في جزئها الشرقي والجنوبي الشرقي يعتقد أن يكون تابعاً لمعصرة، بالإضافة إلى حجر دائري عليه إفريز على كامل المحيط لتسهيل مرور السائل منه، كما عُثر على ثلاثة حجارة كبيرة متموضعة في غير مكانها وعليها ثقوب مختلفة إلى الغرب من المعصرة ما يدل على أن الموقع تعرض للعبث.

Leave a Comment
آخر الأخبار