الحرية- حنان علي:
حين يدنو الإنسان من نهايته، لا ينشد الخلاص بقدر ما يبتغي شاهداً على آخر شكل من أشكال بقائه.. كلماته! فهل سمعت عن رسائل لا تنتظر قارئاً؟ عبارات تطفو في زجاجات، تُحفر على جدران، أو تتراكم في بريد مهمل؛ محاولات أخيرة للانتصار على الفناء، وشهادات مقتضبة عن ظلمة الوجود.
وداع بين الجليد والغرق
صبي على شاطئ “ديفون” الإنكليزي، عثر في يونيو 1899، على علبة صغيرة طافية، بداخلها رسالة كتبت بقلم رصاص: “إلى زوجتي وأطفالي. ها هي السفينة ‘ستيلا’ تغرق بينما أكتب كلماتي الأخيرة. إذا لم أنجُ، اذهبوا إلى بيت أخي. وداعاً يا أحبائي.” بيد أن الرسالة ضلت طريقها عن الزوجة والأطفال وتاهت معها الوصية والوداع. وهنا يطفو تساؤل وجودي: أي وعي يمتلكه الإنسان وهو يواجه العدم؟ تخيل برودة أعصاب “ويليام غراهام” عام 1861 وهو يكتب، بينما تحيط الجبال الجليدية بسفينته الغارقة: “فوضى عظيمة على متن السفينة، أعلم أنني لن أنجو. لكني أكتب لكيلا يطول قلق الأصدقاء” !.
الأمواج لم تأتِ بأنباء الكوارث وحدها، بل تحمل أثقال الضمائر. ففي أكتوبر 1896، عُثر بالقرب من “دوفر” على رسالة استثنائية كُتبت باعتراف: “أنا، تشارلز بيلشر، قتلت مارجريت هاتشينسون.. ورميت جثمانها في بئر، ومن يومها وأنا عاجز عن النوم. لذا عقدت العزم على إنهاء وجودي البائس بالقفز في البحر”.
رسائل الجدران
بينما ترسو الزجاجات المحملة بالكلمات على ضفافٍ ما، أو تصل ليدِ قارئ متأخر، ثمة رسائل لا تبارح مكانها، تكتب بأصابع أنهكها القيد في عتمة الزنازين. تسطر كأنفاس أخيرة على جدران باردة، كصرخات خافتة لا تعثر على صداها، “أكتب لأنني ما زلت أتنفس”، أو ” أفتقدك” لعزيز بعيد. رسائل خاطبت الأمهات: “اشتقت لتلك السيدة التي كانت توصيني أن أنتبه لنفسي، يا ليتها تعلم أني فقدت نفسي حين غاب وجهها”. أو “لا تحزني يا أمي، هذا هو مصيري”. أو “مظلوم يا أمي “.
عبارات تقاوم التلاشي والنسيان، أو محاولات لحفظ الملامح من الصدأ في رطوبة الحجرات. لكن، هل من قارئ لهذه المرارة؟ أليست وصايا معلقة بين الحياة والموت، ومجلدات في “مكتبة سريّة للآلام”، تشهد جدرانها على حقيقة واحدة: “كنت هنا… ولم أستسلم.” تاركة السؤال الأعمق: هل تُختزل الحقيقة بمن يعرفها؟
هوس الإنسان البائس بإثبات وجوده لا يتوقف عند الزجاجات والجدران. فكم رسائل كُتبت على أوراق متفحمة بين خنادق المعارك، أو حُفرت على جذوع أشجار عتيقة. وماذا نقول اليوم في عصر المعلومات عن “المنشورات” أو “التغريدات” الأخيرة، أليست النداء نفسه يُلقى في محيط رقمي، أو ينقش فوق جدران افتراضية، أليست بحثاً عن شاهدٍ على الرحيل، أو صدىً لسر وجودي أبدي: أحببنا، عانينا، وحاولنا، حتى النهاية، أن نقول كلمتنا الأخيرة.