خبير يدعو إلى اعتماد “اقتصاد الفرص”.. بناء الهوية الاقتصادية لسوريا الجديدة محرك الاستقرار والازدهار

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية- رشا عيسى:
تواجه سوريا، بعد عقد من الصراع، تحدياً وجودياً يتمثل في إعادة بناء اقتصادها المدمر، لكن هذا التحدي يحمل في طياته فرصة فريدة لإعادة تعريف هويتها الاقتصادية، ليس فقط كمسار للتعافي، بل كركيزة أساسية للاستقرار السياسي والاجتماعي المستدام.
إن الهوية المقترحة اقتصاد مفتوح، متنوع، ومستدام، يعتمد على الابتكار، الشراكات الإقليمية، والحوكمة الشفافة، مع تجنب فخاخ الاعتماد على الموارد الطبيعية أو الديون غير المستدامة، وتشكل خريطة طريق نحو مستقبل مزدهر.

واقع صعب وإمكانات كامنة

يُظهر الاقتصاد صورة قاتمة، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 83% منذ عام 2010، ووصل 90% من السكان تحت خط الفقر، لقد دمر الصراع 40 % من البنية التحتية، وأفقد 50 % من القدرة الإنتاجية الصناعية، وشهد هجرة ملايين الكفاءات، وفقاً لتقرير البنك الدولي (يوليو 2025)، يُتوقع نمواً متواضعاً بنسبة 1% فقط في عام 2025، ما يؤكد الحاجة الملحة لتدخل هيكلي.
وتتمثل التحديات الرئيسية التي تعوق التعافي كما يحددها الخبير في السياسات الاستراتيجية والاقتصادية والإدارية الدكتور هشام خياط لـ ( الحرية) بـ:
١- الأمن والاستقرار: النزاعات المستمرة وعدم اليقين الأمني يثبطان الاستثمار المحلي والأجنبي، كما يتضح من تجربة ليبيا، حيث أدت الخلافات الإقليمية إلى شلل قطاع النفط لأشهر، ما كلف الاقتصاد مليارات الدولارات.
٢- القيود المالية: تعاني سوريا من سيولة محدودة، وعقوبات دولية معلقة تحد من الوصول إلى الأسواق العالمية، وديون خارجية تقدر بنحو 20 مليار دولار، كما تقدر تكلفة إعادة الإعمار بين 250-400 مليار دولار، وهو مبلغ يفوق بكثير حجم الاقتصاد الحالي (21 مليار دولار)، ما يستدعي حلولاً تمويلية مبتكرة وغير تقليدية.
٣- القطاع غير الرسمي: يشكل هذا القطاع ما يقدر بـ 70% من الاقتصاد، ما يعوق قدرة الدولة على جمع الضرائب، وتوفير الخدمات، وتنظيم سوق العمل. هذه الظاهرة تفاقمت في سياقات الصراع مثل اليمن وسوريا، حيث أدت إلى “غير رسمية” اقتصادية متزايدة، ما يقوّض أسس التنمية المستدامة.
٤- التحديات الإقليمية: المنطقة ككل تعاني من تداعيات النزاعات، حيث ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الشرق الأوسط بنسبة 2% تحت مستويات ما قبل الحرب، مع تأثيرات سلبية على السياحة والتجارة والاستثمار.
هذه التحديات ليست فريدة من نوعها وفقاً للدكتور خياط، ففي العراق، أدى الاعتماد المفرط على النفط إلى عدم التوازن الاقتصادي والفساد، بينما نجحت تجارب خارج المنطقة مثل رواندا في تحقيق نمو سنوي بنسبة 15% من خلال التنويع الاقتصادي والتركيز على الحوكمة.

اقتصاد الفرص

ورأى خياط أنه لتحقيق الاستقرار والازدهار، يجب أن تتبنى سوريا هوية اقتصادية واضحة المعالم، ترتكز على الانفتاح والتنوع والاستدامة، هذه الرؤية تقوم على أعمدة رئيسية:
– التنويع الهيكلي وبناء اقتصاد مرن ومتعدد الأوجه بدلاً من الاعتماد على قطاع واحد.
– والتركيز على تطوير قطاعات متعددة ذات قيمة مضافة عالية الزراعة والأغذية (30% من الاستثمار المستهدف) وإعادة إعمار 2 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، مع التركيز على المحاصيل ذات القيمة العالية مثل الزيتون والفواكه والخضراوات، لتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير فرص عمل، والتحول إلى مصدر رئيسي للمنتجات الزراعية المصدرة إلى السوق الخليجي يقدر بـ 50 مليار دولار سنوياً، ويتحقق ذلك من خلال تحديث أساليب الري، دعم المزارعين بالتقنيات الحديثة، تطوير سلاسل القيمة، وجذب الاستثمارات في الصناعات الغذائية التحويلية.

40 بالمئة من الاستثمار المستهدف

كما تعد الطاقة والصناعة (40% من الاستثمار المستهدف).
ويبيّن خياط أن خصخصة الموانئ والمصانع الحكومية مهمة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة تقدر بـ 10 مليارات دولار.
كما أن التحول نحو الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية في الصحراء السورية، يمكن أن يوفر حلولاً مستدامة للطاقة ويجذب استثمارات خضراء. بما يسهم في إعادة بناء القدرة الصناعية، وتوفير طاقة نظيفة ومستدامة، وخلق فرص عمل في قطاعات جديدة، ما يتطلب إصلاح الإطار القانوني لجذب الاستثمار، تقديم حوافز للشركات، وتطوير البنية التحتية للطاقة المتجددة.

التكنولوجيا والخدمات

كما بين خياط أن التكنولوجيا والخدمات تشكل (30% من الاستثمار المستهدف) ويمكن الاستفادة من القوى العاملة الشابة من خلال تدريب 500 ألف شاب على مهارات الذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية والبرمجة. وإنشاء مناطق حرة رقمية ومراكز ابتكار، وبذلك يتحقق هدف بناء اقتصاد المعرفة، وتوفير فرص عمل عالية القيمة، وجذب الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا، والإجراءات لتحقيق ذلك تتطلب تطوير البنية التحتية الرقمية، وإنشاء حاضنات أعمال، وتوفير بيئة تنظيمية داعمة للشركات الناشئة، على غرار نموذج دبي في الإمارات العربية المتحدة.

الاندماج الإقليمي بوابة للنمو والتعاون

الدكتور خياط أكد أنه يجب أن تسعى سوريا بنشاط لإعادة دمج نفسها في الاقتصاد الإقليمي والعالمي من خلال اتفاقيات التجارة الحرة ، مع دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا لفتح أسواق جديدة أمام المنتجات السورية، والوصول إلى أسواق تضم 500 مليون مستهلك.
والاستفادة من الالتزامات الدولية توجيه التزامات بروكسل (5.8 مليارات يورو) نحو دعم البنية التحتية الحيوية التي تسهل التجارة والربط الإقليمي، والتعاون في المشاريع الكبرى كمشاريع إقليمية للبنية التحتية (طرق، سكك حديد، أنابيب) لتعزيز مكانة سوريا كجسر تجاري.
وركز الخبير في السياسات الاستراتيجية والاقتصادية على الحوكمة والشمول كأسس الاستقرار والثقة، حيث لا يمكن لأي رؤية اقتصادية أن تنجح دون حوكمة قوية وشاملة، ومكافحة الفساد وسن وتطبيق قوانين صارمة لمكافحته، وإنشاء هيئات مستقلة للرقابة والمساءلة، والشفافية في العقود الحكومية وإدارة الموارد، وتطوير بنوك رقمية وبرامج للتمويل الأصغر لـ”جعل غير القابل للبنوك قابلاً للبنوك”، ما يتيح الوصول إلى الخدمات المالية للقطاع غير الرسمي والشركات الصغيرة، والشمول الاجتماعي عبر إطلاق برامج خاصة لتمكين المرأة (30% من المساعدات المخصصة يمكن أن توجه لدعم مشاريعها)، وإعادة دمج العائدين والنازحين في سوق العمل والمجتمع، وتوفير شبكات أمان اجتماعي.

بوصلة نحو التعافي

الدكتور خياط أوضح أن التجارب الإقليمية والدولية تقدم دروساً قيمة لسوريا، بناءً على تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2024) ودراسات البنك الدولي حول الشرق الأوسط ويصنفها الدكتور خياط كما يلي:
– الدروس الإقليمية (الشرق الأوسط) وخاصة في العراق وليبيا: فشلت جهود إعادة الإعمار في هذه الدول بسبب السيطرة السياسية على الموارد الطبيعية (النفط)، ما أدى إلى تفشي الفساد، وتغذية النزاعات الداخلية، وإعاقة التنويع الاقتصادي. الدرس المستفاد أنه يجب التركيز على التنويع الاقتصادي المبكر وتجنب “لعنة الموارد” من خلال حوكمة شفافة للموارد الطبيعية.
– وهناك مثال لبنان (ما قبل 2019)، حيث حقق نجاحاً جزئيًا في قطاعات مثل الطاقة عبر الشراكات العامة-الخاصة، لكن الاعتماد المفرط على الديون الخارجية لتمويل هذه المشاريع أدى في النهاية إلى انهيار اقتصادي شامل. الدرس المستفاد هنا يجب أن تكون الشراكات والتمويل مستدامين، مع تجنب فخاخ الديون غير المستدامة.
– ومثال آخر يعرضه خياط وهو غزة، وظهرت إمكانية التمويل الدقيق (microfinance) في دعم التعافي الاقتصادي على المستوى الشعبي، حيث يمكن أن يدعم 30% من جهود إعادة الإعمار. والدرس المستفاد دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة والتمويل الأصغر ضروري لتمكين المجتمعات المحلية.

سوريا والاندماج الإقليمي

يمكن لسوريا الاستفادة من علاقاتها التاريخية والجغرافية مع تركيا (حجم تجارة متوقع 1.9 مليار دولار في 2025)، ودول الخليج للاستثمار في الطاقة المتجددة والبنية التحتية والدرس المستفاد: الاندماج الإقليمي والتجارة البينية يمكن أن يكونا محركين للنمو.

الدروس الدولية

يُذّكر الدكتور خياط بتجارب في كولومبيا و رواندا وأفغانستان، ويخلص الى التأكيد أن بناء “سوريا بـ”اقتصاد الفرص” ليس مجرد خطة اقتصادية، بل هو مشروع وطني لإعادة بناء الثقة، وتعزيز اللحمة الاجتماعية، وترسيخ الاستقرار السياسي، من خلال تبني هوية اقتصادية تركز على التنويع، الاندماج الإقليمي، والحوكمة الشفافة والشمولية، يمكن لسوريا أن تتجاوز تحدياتها الحالية وتستغل إمكانياتها الهائلة لتصبح نموذجاً للتعافي والازدهار في المنطقة، ويتطلب هذا التزاماً سياسياً قوياً، ودعماً دولياً منسقاً، ومشاركة واسعة من جميع أطياف المجتمع السوري.

Leave a Comment
آخر الأخبار