غلاء المهور.. بين ضمانة للأهل وسبب لهروب الشباب من الزواج

مدة القراءة 12 دقيقة/دقائق

الحرية- إلهام عثمان:

تتجدد أزمة تكاليف الزواج في المجتمعات العربية، لتضع الأهل في مأزق الاختيار بين التيسير على الشباب استجابة للسنة النبوية الشريفة، والإصرار على المهور والمؤخرات المرتفعة، لتبرز هذه المعضلة ليس كخلاف مادي فحسب، بل انعكاساً عميقاً لأزمة ثقة في الالتزام الأخلاقي للجيل الجديد، حيث يخشى الأهل أن يتحول تيسير المهر إلى استرخاص لقيمة الابنة في نظر الزوج والمجتمع.
فهل يمكن للمهر والمؤخر أن يمثلا حقاً “قيمة ردع” تحمي الأسرة من الانهيار في ظل تراجع الوازع الأخلاقي عند بعض الشبان والتي قد يترجمها البعض منهم إلى أنها “لقمة سهلة” إن تساهل الأهل، أم إنهما مجرد عائق مادي يهدد استقرار المجتمع بتعطيل الزواج؟

قصص تلامس الواقع

وبين خوف الأهل وعجز بعض الشبان عن دفع المهر أو تسجيله:
كشفت جولة ميدانية في دمشق عن تباين في الآراء تعكس الصراع بين التمسك بالضمان المادي من قبل أهل العروس والتيسير على الشباب لمنع الفحشاء:
إذ بين (أبو أحمد – 55 عاماً) وهو أب لثلاث فتيات، أن إصراره على مؤخر مرتفع (ما يعادل 15 ليرة ذهبية) ليس طمعاً، بل خوفاً من المستقبل خاصة أنه خاض تجربة مريرة تكللت بطلاق أحد فلذات كبده كما وصفها، وقال أنا أب لثلاث فتيات، وقد: قمت سابقاً بتيسير أمور المهر عند زواج ابنتي الكبرى ولم نطالب العريس بمهر, وكان طلبي هو أن يحافظ على شرفنا وأن تكون ابنتي سعيدة في زواجها, فقمت بتأمين عمل مريح لزوجها وتأمين مسكن له حتى لا ترهق التنقلات من منزل مؤجر لآخر ابنتي بسبب الإيجارات، وكانت الصدمة عندما أصبح لزوج ابنتي عمله الخاص في النجارة ولديه منزل، فبدل أن يكرمنا ويكرم ابنتي, قام بالتخلي عنها فوراً وتزوج بأخرى, ويستطرد وهو حزين: إن هذا التصرف جعل ابنتي تدخل في حالة نفسية صعبة وهي ترفض الزواج خوفها من الارتباط برجل غير مسؤول, ويختم أبو أحمد إنه بعد تجربة ابنته تلك, قرر أن يكون المهر و المؤخر هو الضمان الوحيد في حال تم الطلاق بسبب استهتار أو تغير الشاب، مضيفاً: إن سبب هذا الاحتراز أن يكون السند القانوني هو المؤخر.
من منظور آخر بيّن عمر ذو الـ 28 عاماً أن المغالاة في المهور و المؤخرات هي العائق الأكبر أمام الشباب، ويقول: “أنا مستعد لتحمل تكاليف الزواج الأساسية، لكن طلب مهر ومؤخر كبير هو أمر مستحيل، مبيناً أنه عند التقدم لأحد الفتيات، طلب أهلها خمسين ليرة ذهبية حسب قوله, و يضيف: إن ذلك وضعه أمام خيارين: إما تأجيل الزواج لسنوات طويلة، أو اللجوء إلى الاقتراض، و إن تسجيل هذا المهر أو دفعه يهدد الثقة بين الزوجين واستقرارهما قبل البدء بالحياة الزوجية.
أما الحالة الأخيرة: أبو باسل وهو رجل مطلق و موظف حكومي قام بطلب يد أحد الفتيات وكان المقدم عشر ليرات ذهب ومثلها مؤخر وخمس عشرة ليرة ذهبية ملبوس وعشرة ملايين ذهب، وأضاف: إن الضمان الحقيقي يكمن في الأخلاق والالتزام، وليس في المال، و يقول: “المؤخر المرتفع قد يكون سيفاً مسلطاً على رقبة الزوج، لكنه لن يمنع الطلاق إذا غابت المودة والرحمة، وأنا أبحث عن أسرة تيسر عليّ، لأن التيسير دليل على الثقة، والثقة هي أساس الزواج الناجح.

سعد الله: الأهل يخشون من أن يكون التيسير باباً للاستهانة بقيمة العلاقة الزوجية

معضلة تطرق أبواب مجتمعنا

وكي نخوض في تفاصيل هذه المعضلة أكثر، كان لابدّ من استشارة أهل الخبرة, حيث كشفت المستشارة الأسرية والاجتماعية د.هلا سعد الله من خلال حوار مع “الحرية”، أنه في زمن السرعة في كل الأمور ومنها السرعة في اتخاذ القرارات الخاطئة التي قد ينجم عنها الطلاق لأتفه الأسباب عند بعض الشبان, أضحى التيسير و التساهل في أمر المهور سواء المعجل أو المؤجل وغيره من أمور تتعلق بالتحضير للزواج, من الأمور الصعبة التي تواجه المجتمع، وأن تيسير المهر من قبل أهل العروس قد يصطدم بواقع اجتماعي /متقلب/، ففي ظل تراجع الوازع الأخلاقي لدى البعض من الشبان وعدم حبهم لتحمل المسؤولية والسرعة في التخلي و ربما الخذلان للزوجة، بات الأهل يخشون من أن يكون التيسير باباً للاستهانة بقيمة العلاقة الزوجية، ما يجعلهم على مفترق طرق, إما أن يزوجوا ابنتهم ويتركوا الأمر للقدر أو أن يتمسكوا بالضمان المادي كآلية ردع وسند إن وقع الطلاق.

سعد الله: المؤخر يتجاوز كونه قيمة مادية ليصبح ضماناً نفسياً وسلوكياً

المؤخر كابح مالي ضد “الطلاق السهل”

ومع إصرار الأهل على المؤخر المرتفع بينت سعد الله, أن السبب يعود إلى أزمة ثقة في الالتزام الأخلاقي من قبل الشبان في هذا العصر، فمن جهة هناك بعض العوائل يغالون في طلب المهور وتصفه “بالخيالي” وفقاً لبعض الحالات، فمنهم وبالرغم من أن الشاب لديه مسكن شرعي ولديه عمله الخاص إي لا خوف على ابنتهم يضعون مهراً كبيراً , كما أن هناك فئة أخرى من الشبان قد لا يملكون إلّا أخلاقهم الحميدة وعملهم لكن قد لا يملكون عش الزوجية والذي قد يكون مصدر أمان و العيش الكريم للزوجة، و رغم ذلك الأهل يطلبون مهوراً مرتفعة, أما الفئة الثالثة من الشبان وهم الذين قد يضيع معهم المعروف، حيث يقوم أهل العروس بتيسير كل السبل من مسكن ومهر وتكاليف أخرى، وعند التسجيل مهر ولو كان في حدوده الوسطى من معجل ومؤجل وملبوس بدن و ذهب، ورغم ذلك قد يجد الشاب نفسه متردداً وربما مغدوراً حسب وصف أحدهم, وهذا ما بينته حالات كثيرة قد نراها منتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي.

سعد الله: إنشاء صندوق لدعم الأسرة والمرأة كضمان فردي وكبديل

ومن هذا المنطلق، يجد بعض الأهل أن الحل قد يكون في تسجيل مهر كبير على الشاب, حيث أشارت سعد الله إلى أن المؤخر قد يرونه أهل العروس يتجاوز كونه قيمة مادية ليصبح ضماناً نفسياً وسلوكياً، خاصة عندما يخشون من “الاسترخاص” الذي قد يمارسه الشاب عند التيسير المفرط, وأن المؤخر المرتفع هو محاولة لتعويض المادي, والمبرر أن ضعف الوازع الأخلاقي لدى الزوج قد يعوض بوازع مادي, وتضيف: فالشاب الذي يهدد زوجته بالطلاق سيفكر مرتين قبل أن يواجه ديناً كبيراً مستحقاً عليها.

إجراء احترازي

كما أن المبالغة في تدوين قيمة المؤخر، حتى لو كانت صورية، هي في نظر الأهل إجراء احترازي لضمان حق الابنة مستقبلاً في حال تدهور قيمة العملة أو لرفع قيمتها القانونية, هذا المنظور يصحح الفكرة السائدة بأن الأهل ماديون، فهم يطالبون بضمان مكتوب يحمي ابنتهم من تقلبات الزمن وهو إجراء احترازي, لكن تعود لتؤكد سعد الله .. عند وقع الطلاق فإن الرادع المادي لا يشفي الجراح ولا يعدل القرارات الخاطئة, لذا تنصح بأن خير الأمور أوسطها.

البستاني: المغالاة في المهر مكروهة شرعاً لما فيها من تعسير على الشباب

مكروهة شرعاً

ومع تصارع الآراء بين خوف الأهل و التغير في معاملة الزوج بسبب عدم تحمل المسؤولية لدى بعضهم, كان لابدّ من أخذ رأي رجال الدين، حيث أكد خبير في الفقه الإسلامي الشيخ محمد البستاني، أن المهر سواء كان معجلاً أو مؤجلاً (مؤخراً)، هو حق ثابت ومفروض للمرأة في الشريعة الإسلامية, وهو ليس ثمناً لها بل رمز لتقديرها وصونها, وقد جاء هذا التأكيد في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾، ووفقاً للشريعة الإسلامية، أوضح البستاني أن المغالاة في المهور مكروهة شرعاً، وبناءً عليه حض على التيسير في الزواج لمنع الفحشاء و العفاف وبناء الأسر السليمة، وأن المهر بشكل عام يجب أن يكون في حدوده الوسطى, وأن المؤخر ليس مجرد حبر على ورق كما يشاع، بل هو دين واجب الأداء في ذمة الزوج.
لافتاً إلى أن المغالاة في المهر مكروهة شرعاً لما فيها من تعسير على الشباب، لكن تدوينه بقيمة حقيقية أو تقديرية لا يخرجه عن كونه ديناً شرعياً و قانونياً يجب الوفاء به، مستشهداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ”.

عرابي: المهر دين ممتاز في ذمة الزوج

للقانون بصمته

من جهته بين مختص في قضايا الأحوال الشخصية بدمشق، المحامي فؤاد عرابي, أن قانون الأحوال الشخصية السوري ينظر إلى المهر كدين ممتاز في ذمة الزوج, وهنا شدد عرابي على أن تضخيم قيمة المؤخر في العقد، حتى لو كان صورياً، يظل ديناً واجب الأداء على الزوج عند الطلاق أو الوفاة، و هو يمثل ضمانة قوية للزوجة, خاصة في حال النزاع، حيث يقع عبء إثبات أن القيمة المدونة هي “مهر مثل” على الزوج.

حلول تستحق التأمل

وعندما يكون الهدف الجوهري هو صون كرامة المرأة، فلابد من طرح عدة حلول وهنا أشارت سعد الله إلى أنّ الحل لو أخذت بالحسبان من الجهات المعنية ومؤسسات الرعاية بشقيها الحكومي وغير الحكومي, مثل الشؤون الاجتماعية وغيرها, فإنها ستخفف كثيراً من هذه المعضلة الكبيرة التي يتعرض لها المجتمع، لافته إلى أنه أول الحلول، هو إنشاء صندوق لدعم الأسرة والمرأة تحديداً كبديل للضمان الفردي, فقد يكون هذا الحل كحل مؤسسي يمكن له أن يقلل من الاعتماد الكلي على المؤخر المرتفع كضمان وحيد، حيث يهدف لدعم المالي والقانوني والنفسي للزوجة في حال الطلاق التعسفي أو في حال وفاة الزوج، ما يوفر شبكة أمان اجتماعي تتجاوز قدرة الفرد.
ومن الحلول أيضاً، تعين راتب شهري للأرامل والمطلقات و كبيرات السن من قبل الجهات الحكومية المعنية بشؤون الأسرة، مشددة على أنه من هذه النقطة تحديداً، نصون كرامة نسائنا بعد تعرضهن للطلاق والخذلان.

يظل ديناً واجب الأداء على الزوج عند الطلاق أو الوفاة

أما الحل الأخير وفي حال الطلاق أو الوفاة، هو تكفل الدولة بتأمين عمل مناسب لهن سواء كان مهنياً أو حكومياً، وأنه مع مراعاة تلك الحلول وإمكانية تنفيذها، نكون قد حافظنا على النساء من طلب المساعدة من الغير أو من تعرضهن للابتزاز المادي من قبل ضعاف النفوس, والتي قد تقع ضحيته كثيرات, ذنبهن أن الزوج أو المجتمع قد تخلّى عنهن.

التوازن هو المفتاح

وختمت سعد الله: مؤكدة على أن هذا التوجه، لو دعمته مؤسسات حكومية رسمية، والذي يركز على تحويل الضمان من عبء فردي على الزوج إلى مسؤولية مجتمعية ومؤسسية، ما يشجع على التيسير في المهور، مع توفير حماية حقيقية ومستدامة للمرأة والأسرة, وإيجاد توازن دقيق بين السنة النبوية في التيسير ومتطلبات العصر في الضمان, وفي تلك الحالة تكون قيمة المؤخر معقولة، وهي تمثل حماية حقيقية للزوجة من دون أن تكون عائقاً مستحيلاً أمام الشاب.

الوسوم:
Leave a Comment
آخر الأخبار