المونة السورية… إرث الاكتفاء الذاتي وذاكرة الأمن الغذائي للأسرة

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – نهلة أبوتك:

قبل أن تُعرِّف المؤتمرات الدولية مفهوم الأمن الغذائي، كان المجتمع السوري يعيش هذا المفهوم بالفطرة.

فقد عرف الاكتفاء الذاتي منذ قرون، من خلال ما يُعرف بـ”المونة السورية”، ذلك التقليد العريق الذي حوّل فائض المواسم إلى مؤونة تحفظ الغذاء وتمنح الأسرة الأمان والاستقرار في وجه الأزمات والظروف الصعبة.

من تجفيف البقول والخضار إلى تحضير المربيات ودبس البندورة والمخللات، كانت المونة حكاية اكتفاء وذاكرة طمأنينة تتجدد كل عام.

تقول إحدى السيدات المعمّرات: البيت الذي لا يحوي مونة لا بركة فيه… منها نأكل، ومنها نُطعم.

وتضيف: في القرية كنا نتبادل منتجاتنا لتخزين مونة الشتاء، فالذي لديه فائض يعطي جاره، وهكذا حتى يشعر الجميع بالأمان، رغم أن حياة المدينة غيّرت بعض التفاصيل لكنها لم تمس جذور العادات المتأصلة فينا.

بيت المونة… تراث المكان وذاكرة الوفرة

لم تكن المونة مجرد مؤونة غذائية، بل ثقافة متكاملة تمتد إلى المكان المخصص لتخزينها، المعروف بـ بيت المونة أو النملية أو السقيفة حسب اختلاف المناطق السورية.

في القرى، كان يُشيّد هذا البيت بعناية لتأمين التهوية والحماية من الرطوبة والحشرات، بينما كانت في المدن تُخصّص زوايا أو أقبية لتخزين المؤونة خلال الشتاء القارس.

هذا التنوع في الأساليب والمصطلحات يعكس خبرة السوريين في استثمار بيئتهم لخدمة أمنهم الغذائي، ويكشف عمق العلاقة بين الإنسان والأرض في تشكيل ذاكرة الريف السوري وتراثه اليومي.

من تقليد منزلي إلى نموذج للاقتصاد المستدام

تُثبت تجربة المونة السورية أن الأسرة كانت أول من مارس مفهوم الأمن الغذائي قبل أن يتحول إلى مصطلح عالمي.

فما بدأ كتقليد منزلي بسيط لحفظ فائض المواسم، تطوّر مع الزمن ليصبح نموذجاً مصغّراً للاقتصاد المستدام، يقوم على استثمار الموارد المحلية بأقل التكاليف، وضمان استمرارية الغذاء على مدار العام.

اعتمدت الأسر السورية في هذا النموذج على حفظ المحاصيل وتحويلها إلى مؤونة تكفي العام كله، ما أوجد دورة اقتصادية صغيرة داخل المجتمع المحلي.

ولذلك فإن تطوير هذه التجربة اليوم يمكن أن يكون جزءاً من السياسات الزراعية الحديثة عبر:

– تشجيع الإنتاج المحلي والتصنيع الغذائي الريفي.

– دعم صغار المزارعين وتمكين النساء العاملات في المونة المنزلية.

– استخدام تقنيات حديثة في التخزين والتحويل الغذائي للحفاظ على جودة المنتجات.

وهكذا، تصبح المونة مثالاً حياً على قدرة المجتمع السوري على تحويل العادة إلى ثقافة إنتاج، والتراث إلى اقتصادٍ حقيقي يرسّخ قيم الاكتفاء الذاتي والصمود الوطني.

مبادرات محلية تُعيد الحياة إلى المونة السورية

خلال السنوات الأخيرة، أطلقت جمعيات نسائية ومبادرات مجتمعية في مختلف المحافظات السورية مشاريع لإحياء تراث المونة من خلال معارض ومنتجات منزلية تُبرز مهارة المرأة السورية في إعداد المؤونة بطرق صحية واقتصادية.

تقول إحدى السيدات العاملات في هذا المجال:

أحرص على تجهيز أصناف المونة بطرق صحية تحافظ على الموروث وتؤمن دخلاً ثابتاً لأسرتي.

بهذه الجهود، أصبحت المونة جسراً بين التراث والتنمية، وحلقة وصل بين الماضي الذي علّم السوريين الصبر، والحاضر الذي يتطلب الإبداع والاعتماد على الذات.

المونة السورية… حكاية وطن يعرف الاكتفاء

تبقى المونة السورية أكثر من إرث غذائي، إنها ذاكرة الأمن الغذائي الوطني، ورمز للوفرة والإيثار، ودليل على أن المجتمع السوري عرف الاكتفاء قبل أن يعرفه العالم.

فهي ليست فقط وسيلة للحفاظ على الطعام، بل رسالة استدامة وكرامة ووعيٍ غذائي تُورَّث جيلاً بعد جيل.

Leave a Comment
آخر الأخبار