الحرية– محمد زكريا:
لم تعد التجارة مجرد حركة للبضائع بين الدول، بل أصبحت اليوم عنصراً محورياً في النظم الزراعية والغذائية العالمية، تؤثر بشكل مباشر في الأمن الغذائي والتغذية، والصحة العامة، فالتجارة تُحرّك الغذاء من مناطق الفائض إلى مناطق العجز، وتسهم في تنويع مصادر الإمداد وتخفيض الأسعار وتحسين الوصول إلى الغذاء، لكنها في الوقت ذاته قد تحمل آثاراً مزدوجة على صحة الإنسان واستدامة البيئة.
فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تضاعف حجم التجارة الغذائية والزراعية خمس مرات تقريباً، من 400 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 1.9 تريليون دولار عام 2022، هذا التوسع جاء نتيجة تحرير التجارة واتساع نطاق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، ما أدى إلى تسارع العولمة الغذائية وربط أسواق العالم ببعضها البعض على نحو غير مسبوق.

مفارقات لافتة
ففي الوقت الذي ساهمت فيه التجارة في سد فجوات نقص المغذيات وزيادة تنوع الأغذية المتاحة، فإنها ساهمت أيضاً في نشر أنماط استهلاك غير صحية تعتمد على الأغذية فائقة التصنيع الغنية بالدهون والسكريات والأملاح، وتشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن العالم يعيش ما يُعرف بـ التحوّل الغذائي (Nutrition Transition)، حيث تتراجع معدلات سوء التغذية ونقص الوزن، في مقابل ارتفاع معدلات السمنة والأمراض المزمنة حتى في الدول النامية.
المشهد عربياً أكثر تعقيدًا
فمع اتساع الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، أصبح العديد من الدول العربية تعتمد بشكل كبير على الاستيراد لتأمين احتياجاتها الغذائية، ما يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية والأزمات الجيوسياسية، وفي سوريا، مثلاً، كان القطاع الزراعي تاريخياً من أكثر القطاعات قدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أن التحولات الاقتصادية وتداعيات الحرب حدّت من القدرة الإنتاجية وأضعفت التوازن الغذائي، ما زاد الاعتماد على الأسواق الخارجية في استيراد القمح والزيوت والمنتجات الغذائية الأساسية الأخرى.
العدالة الغذائية
فالسياسات التجارية يمكن أن تُستخدم لتعزيز الأنماط الغذائية الصحية- كما فعلت بعض الدول مثل ” فيجي ” التي خفّضت الرسوم الجمركية على الفواكه والخضروات لتحفيز استهلاكها، بالمقابل، يمكن أن تُستخدم أدوات مثل الضرائب على المشروبات السكرية ووضع بطاقات تغذوية واضحة على المنتجات لتقليل استهلاك الأغذية الضارة، دون أن تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية التي تضمن مبدأ المساواة وعدم التمييز بين المنتجات المحلية والمستوردة.
إن التحدي اليوم لا يكمن في الاختيار بين الانفتاح أو الانغلاق التجاري، بل في تحقيق التوازن بين المكاسب الاقتصادية والغايات الصحية والاجتماعية، فالتجارة ليست عدواً للتغذية، بل قد تكون أداة لتحقيق العدالة الغذائية إذا ما نُسّقت السياسات بين وزارات التجارة والزراعة والصحة لضمان أن تظل الأسواق مفتوحة، ولكن على أساس يخدم الحق في الغذاء الصحي والمستدام للجميع.
الانسجام ضرورة ملحة
الخبيرة الزراعية انتصار محمد الجباوي أوضحت لـ”الحرية” أنَّ تحقيق الانسجام بين السياسات التجارية وسياسات التغذية، أصبح ضرورة ملحّة في عالم تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية مع التحديات الصحية والبيئية، وبينت أنه لا يمكن النظر إلى التجارة والغذاء كمسارين منفصلين، فكل قرار تجاري يؤثر على صحة الأفراد وعلى خياراتهم الغذائية، سواء من حيث الأسعار أو التوفر أو الجودة.
فالمطلوب اليوم هو أن تُبنى السياسات التجارية على أساس يوازن بين متطلبات السوق وحق الإنسان في غذاء صحي وآمن.
دورة تدريبية
يذكر أن أكاديمية التعلم الإلكتروني لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO eLearning Academy) نظمت خلال الفترة الماضية دورة تدريبية بعنوان “Trade and Nutrition: Policy Coherence for Healthy Diets” حيث أظهرت هذه الدورة الرؤية الأعمق للعلاقة المتشابكة بين التجارة والتغذية، كما أكدت محاور هذه الدورة على أهمية التعاون بين المؤسسات البحثية وصنّاع القرار لتطوير سياسات غذائية وتجارية متناغمة تدعم الأمن الغذائي المستدام في سوريا والمنطقة العربية.