الحرية- لبنى شاكر :
معروفٌ اشتغال التشكيلي بشير بشير على لوحةٍ غنيةٍ بالعناصر المُجرّدة من قواعدها الأولى، نحو مسارٍ خاصٍّ به، يُعيد فيه بناء الأشكال وتراصفها، وهو ما نراه في معظم ما أنتجه في الأعوام الأخيرة، إنما ضمن أبعادٍ محدودةٍ، وكأنه يضع المُكوّنات ذاتها في مساراتٍ متباينة، لِتختلف بالتالي قراءتها وردود الفعل تجاهها.
توصيف التجربة عامة
تلتقي أعمال بشير المُنتجَة مُؤخراً عند نظيراتها على امتداد التجربة عامة، في التكوين الجامع للخط واللون والحروفية غير المقروءة، إلى جانب البناء الهندسي والجزئيات التراثية والمنمنمات التزيينية، والتي تظهر ضمنها كتل مُترابطة بشكلٍ جماليٍّ مدروس، وعلى ما يقوله فالتوازن موجودٌ دائماً في لوحاته، وصولاً إلى الألوان الحارة والباردة، ومن ثم فهو ينسحب على المضامين أيضاً، ومن ذلك مثلاً مجموعة واسعة من اللوحات الصغيرة رسمها قبل عام، تُقارب ما قدّمه في معرض سابق (ألف ليلة وليلة) عن عوالم الشرق الثريّة، والتي استعاد فيها حكايات شهرزاد وشهريار، وما فيها من صراعات وأساطير وخيالات، مُقدّماً فارساً يخوض معركةً ما، يرفع إشارة النصر في بعض اللوحات ويشتبك في غيرها بمُبارزةٍ خفيّة، مُتكئاً على خيله ودرعه.
تلتقي أعمال بشير الأخيرة عند نظيراتها على امتداد التجربة عامةً في التكوين الجامع للخط واللون والحروفية غير المقروءة
مفردات فنيّة مختلفة
يهتم بشير باللعب على البصريات، وهي أكثر ما يُميز عمله، كونه يُمرر عبرها مفردات فنية مختلفة، حتى أنه أدخل الفراغ في اللوحة بأن رسم على الكرتون بالخط الغرافيكي، ثم قصّه وفرّغه ووضعه على سطح أبيض، بعيداً عن الفكرة التقليدية حيث يأتي العمل الغرافيكي بالأبيض والأسود ضمن مساحة كاملة مغلقة، ليصنع منه تكويناً هندسياً بنائياً.
وفي رصيده مجموعة مجسماتٍ مغلفةٍ بالقماش، قابلة للتفريغ وفق تعبيره، لِتعود إلى جذرها الأول كلوحة، لكنها لوحة مكعبة يُمكن تأمل أبعادها كافة، بينما تضم جدارية له مجموع العناصر الموجودة في لوحاته الصغيرة من “تراث، أفكار، شجر مُجرّد، زخرفة، أشخاص”، وفيها تبرز قدرته على وضع العناصر الكثيرة بشكلٍ مُتناسق، حتى تبدو كأنها كلٌّ واحدٌ مُتآلف.
العمارة الشرقية القديمة
تنعكس العمارة الشرقية ولاسيما الدمشقية القديمة بوضوح في أعماله، عبر أقواس ومنحنيات تقترب مما نراه في الحارات والأسواق التراثية، ومع أنها تأتي بكتل وحالات تعبيرية عدة، لكنها تتحد بسلاسة مع المنوعات الغرافيكية في الحروفيات والخطوط، يقدّمها بشير بعيداً عن قواعدها الكلاسيكية، فهو كما يقول ليس خطاطاً لكنه يرسم الخط بعفوية حيث ينسجم مع العمل الفني ولا ينفصل عنه باتجاه الحداثة، وهنا يشير إلى أن تحديث اللوحة بشكلٍ إبداعيٍّ مُبتكر، لا بد أن يقوم على مراحل، ومن الخطأ برأيه الدخول إلى الحالة التجريدية أو التعبيرية مثلاً، دون أن تكون لدى الفنان قاعدة يستند إليها في بناء اللون والفكرة والتوازن وتوزيع العناصر.
يُؤمن بشير بأن اللوحة المعاصرة تحمل أفكاراً وقضايا تتجاوز الحالة الجمالية الطاغية عليها
اختبارٌ حقيقيٌّ للفنان
يُؤمن بشير بأن اللوحة المعاصرة تحمل أفكاراً وقضايا تتجاوز الحالة الجمالية الطاغية عليها، فهي لم تأتِ من الفراغ أو العدم، بل تحمل في جوهرها امتداداً وامتلاءً بالذاكرة إضافة إلى ما تسمح به من إضافات وتجديد وابتكار، حتى يُمكن عدّها اختباراً حقيقياً لقدرة الفنان على الإحياء وإعادة البناء والتصوّر، وفي مشواره لطالما احتفظ بأسلوبيةٍ واحدةٍ وطابعٍ بصريٍّ خاص، اعتدنا رؤيتهما في معظم لوحاته، مع تجديد بطريقة العرض واختلاف في التقنية والتكوين، ليتماهى الخط مع مجموعة انكسارات وزوايا، كما يظهر اللون بوضوح في لوحة تعيش تطوراً مستمراً، حتى إن هذا التطور ميزة تنطبق على التقنية كذلك، تحديداً في اشتغاله على الطباعة الحريرية والخط الغرافيكي والحس التصويري، حيث يمكننا العثور على نماذج وجزئيات مما قدمته الحركة التشكيلية عموماً ضمن أعماله، عبر تشكيل وكتلة مميزين وزخم لوني كبير.