الحرية- هويدا مصطفى:
حين تقرأ الشعر، وتلتقيك قارورة تتضوع عبقاً لتسكب أريجها في انفعالات الوقت، وحين يبرق صوت الحب أو يلتقي مشاعر الصفاء ورائحة المواجع عبر اهتزازات اللغة، لا بد من الاعتراف أن تلك الاهتزازات لها أن ترتكب ذنباً بحق الذين لا يقرؤون؛ بأن الشعر سماء مليئة بلغة المتحالفين مع الحياة. هذا ما وجدته في “صيف أسمر” للشاعر عمار المسعودي؛ ثورة الكلمة ولغة القافية التي لا تفتأ تطرح ملء الشاعرية والشعرية، ترسم ملامح الوجود والموجود.
فالعنوان يشكل مشهداً شعرياً متعدد الجوانب، ليترك للقارئ فسحة التأمل في سر الخلق الشعري، في نصوص شعرية تجمع جمالية المجاز والاستعارة، وتستقي مكوناتها من الفكر والخيال، كما في نص “اليقين الذي في كل هذا”:
“نهرب من الفقه، هذا لا يعني أننا لا نزال في حرير القول، إذ ينزلق عنا المريدون صبوحي الوجه إلى الأمان الذي لزهرة متأخرة من شفتينا. سوف لا أخوض في مياه هذه الساقية التي لا منتهى عذب لجريانها.”
يدعونا الشاعر للغوص في بحر الكلمات، لا الوقوف على مشارفها فحسب. فقد برع المسعودي في تشكيله اللغوي البصري، مستخدماً تشكيله الانزياح صوراً استعارية تعتمل في ذات الشاعر بإشارات متواترة وعلامات استدلالية على الزمن، وكأن الوقت لم يكن متاحاً للحياة الحرة، فتأتي الصورة الشعرية محتفية بالرموز التي تنحو نحو الإيحاءات العالقة بالوجود.
وفي نص “صمت”:
“ازرع صمتاً، كي لا أصير هذا الكلام الذي يمكن أدانتي جراءه أمامك، وقد غفلني. كنت المختفي الذي تتصيد سهوه وانشغاله بتدوينك ومحوك. لا تدخل غابة أسمائي، فأنا اسم لو تيقنته أو عرفته لما كنتَ ولا كنتُ.”
هكذا يأخذنا الشعر بعداً إلى أقصى درجات الغياب، ليجعل الصمت هو اللغة التي تعرف نفسها للحاسة الجمالية بوصفها بدائل، وتنطلق في فضاءات الروح لتختلط بالذات التي تتوزع فيها حوارات في دائرة التأمل، دون التوقف عن الكشف عن توتره الداخلي، ليصل إلى مقامات التصوف.
وكما جاء في نص “موجود قبل يوم”:
“إن أطعتني سأكون في معصيتك أكثر. لا تمدد غصناً ولا تنشر ريحاً، فلا أوراقك لي ولا أثمارك لي ولا أشجارك لي. العناصر هي الوحيدة التي تتغير فينا، فكن في الثبات كي أتيقن منك، وكن في الحركات كي أتيقن منك.”
هنا، الشاعر يأخذنا لمعاينة الصوفية الفلسفية، لتحقق أسلوباً رمزياً وتجريداً شعرياً، إذ يجعل المتلقي يشاركه في فضاء التحولات عبر التجديد في طريقة تقديم المفردات وترسيخ المعنى في ذهن المتلقي. وتبدو الشعرية في التضاد هي تأكيد الذات التي تجمع بين جمرة الشعر وحريق الروح.
وكما جاء في نصه “صيف أسمر”:
“يدعوني بخفاء كأنني في النسيان، بينما أدعوه نهاراً وكأنني في الذكرى. يهرب مني حد استيقاظه ما بين يدي، ثم يكرر الهرب إلى أن أضيع ليدلني عليه.”
الشاعر يعيش أشواقه الداخلية، فينبثق الضياء وهو يعي التضاد، فيتعامل مع موجودات واقعه وفضائه المتخيل بطريقة شاعرية، أخذت الفلسفة أبعادها التعبيرية والرمزية، ليعقد على غصن القصيدة ثمرة المعنى. فكانت الأشجار والينابيع والخضرة والطين لغته التي تدل على تفرده الشعري، ونصه الذي يترك بصمته لدى القارئ، ليترك لشفاه البوح كل هذا السحر والتوهج.
وأخيراً أقول، إن المجموعة الشعرية “صيف أسمر” تقطف شعلة الذكاء في الكتابة والرؤيا، التي تمنح النصوص حضورها ومتانتها في مشهدية القصيدة التي تخفي وراءها طاقة دلالية مكثفة، بدءاً من العنوان إلى النص والصور التي تختزن رسائل إشارية تكشف بواطنه ورؤاه المنبعثة ببراعة شعرية، مبعثها إدراك الصورة لا بوصفها مفجراً للحس الجمالي فحسب، بل لإعطاء العلامات كوناً داخلياً يرتقي بقيمتها الذاتية ليدهش عمار المسعودي اللغة حين يماطل (الرؤية) لتصير في شهوة القصيدة (رؤيا) بتلقائية آسرة وانتقائية ساحرة لتؤسس كوناً شعرياً ينحو منحى الرمزية والإيحاء والتكثيف بحيث تتفتح التعابير عن معان عديدة فتتحول اللغة إلى صور وأخيلة، وتمنح النص مساحة تتسع باستمرار.