الحرية- جواد ديوب:
أجدُ في بعض كتب السيرة الذاتية أو ما يشابهها من كتبٍ تضيء الجوانب الحياتية لشخصية أدبية أو سياسية ميزةً إضافية تمنحها فرادتها، أقصدُ تلك الحكايات والمنمنمات الصغيرة المروّية سواء بلسان الشخصية نفسها محور الكتاب أم بلسان معاصريها أو عن طريق الراوي/الكاتب.
حكاياتٌ “تؤنسِنُ” تلك الأيقونة وتجعل ذاك الشخص المشهور ينزل من مرتبة “الأسطورة” التاريخية في أذهان محبّيه إلى مرتبة الناس العاديين الذين يصبح بإمكانهم القول: آه…كم كانت حياة تلك الشخصيات التاريخية تشبهنا في هذه الجزئية أو في ذلك التصرّف، إنها تحزنُ وتتشاءم وتغضب وتتألم وتعشق كما لو أنها نحن!
وطبعاً بالإضافة إلى ما تهدينا إياه تلك الكتب من معرفةٍ جديدة لتفاصيل وذكريات جعلتْ من تلك الشخصيات ما هي عليه؛ كإحدى الرموز الملهمة في تاريخ مهنتها أو مجالها أيّاً يكن.
شعلة متوقّدة!
بين يديّ الآن كتابٌ نادر، موضوعاً وترجمة (صادر عن دار التكوين) جَهِدَ في ترجمته الدكتور نوفل نيّوف ليطلعنا فيه على كنوز تلك الشعلة المتوقدة الشاعرة الروسية “مارينا تسفيتايفا” أولاً لندرة ما وصلنا سابقاً عنها، وثانياً لما يُضيئُه الكتاب من زوايا خاصة في درب الأدب الروسي.
فمن الجمل التمهيدية الأولى نشعر أننا أمام شخصية مختلفة نابضة حارّة متمردّة تقول ما في روحها وعقلها دون خوفٍ أو حسابٍ لردود فعل المحيط الاجتماعي كما لو أنها بُعثت في مهمة جليلة كونية وعليها تأديتها أيّاً تكن المصائب والمصاعب.
تقول عن نفسِها: “أكثر ما أحببت منذ سن الرابعة: القراءة، ومنذ سن الخامسة: الكتابة. كل ما أحببتُه؛ أحببتُه قبل السابعة من عمري… وعلى مدى السنوات الأربعين التالية كنت أعمل على وعيهِ وإدراكه”.
لعلها شاعرة!
إننا إذاً أمام طفلة تتلاعب بتوليف الكلمات بلغاتٍ روسية وألمانية وفرنسية ولا تهتمّ لشيءٍ سوى القراءة وحفظ الشعر والانسياق مع الأحلام. تقول عنها أمُّها العازفة المولعة بالموسيقا: “ابنتي مارينا في الرابعة من عمرها، لا تكفّ عن الدوران حولي وهي تؤلّف كلاماً مُقفّى… لعلّها ستصبح شاعرة!”
هذه النبوءات الوجِلة أو هذا الانتباه المتخوّفُ عند الأم الرهيفة (والتي بحسب مارينا لم تكن تحبّها بقدر محبّتها لشقيقتها الصغرى ما سبّبَ لها نقصاً في الحب طبع حياتها كلّها) صدقَ لاحقاً إذ تحوّلت البنت المعجونة من الكلمات إلى شاعرةٍ تنتمي إلى “الجيل الفضّي” من الشعراء الروس (1890-1930)، لكنها ابتعدت عن أجواء التنافس بين كوكبة شعراء بطرسبورغ من جهة وشعراء موسكو بمدرستهم الرمزية في الشِّعر من جهة ثانية، مفضّلة التحليق في سربها الخاص وبصوتها الشعري المتفرّد. تقول:
“روحي غيورة على نحوٍ فظيع: إنها ما كانت ستطيقني لو كنت جميلة/ الكلامُ عن المظهر في حالتي غباء: فالمسألة شديدة الوضوح وليست في المظهر بتاتاً/ فأنا أنا: شَعري هو أنا، ويدي الرجّالية مع أصابعها المربعة هي أنا، وأنفي المعقوف هو أنا/ وبمزيدٍ من الدقّة: لا شَعري هو أنا، ولا يدي ولا أنفي: فأنا أنا: أنا ما لا يُرى!/ فلتحترموا القشرة التي أسعدها الله بأنفاسه. اذهبوا: أحِبّوا أجساداً أخرى”.
روحٌ متمردة!
تلك الروح المتمرّدة بشكلٍ لا يطاق أحياناً “مارينا” ردّت على مديرتها في المدرسة الداخلية القاسية بتعاليمها الصارمة: “لا يُقوِّمُ الأحدبَ إلا القبر! إنّي لا أخاف تحذيراتك وتهديداتك. إنْ كنتِ تريدين طردي فاطرديني. سأذهب إلى مدرسةٍ أخرى ولن أخسر شيئاً. لقد تعوّدت على التنقل. بل هو شيءٌ ممتع…ثمّة وجوهٌ جديدة”، واتّخذت من نابليون بونابرت مثالاً وقدوة، وأحبت ألمانيا رغم عدائها الصريح لبلادها وحمم الحرب والنزعات الوطنية وتلك النزعات المضادة، مارينا التي حرمها “فاليري بريوسوف” الجائزة الأولى فردّت عليه وهي لا تزال في سن الثامنة عشرة بـقصيدة: “نسيتُ أن قلبكَ ليسَ أكثر من سِراج وليس نجمة! أنّ شِعرَكَ من الكتب ونقْدَكَ من الحسد. أيها العجوز باكراً، مرّة أخرى للحظةٍ بدوتَ لي شاعراً عظيماً!”
مارينا المتفلّتة كما لو أنها روحٌ من نار والتي ردّت على منتقدي علاقاتها الغرامية المتعددة بأن “كل ما في الأمر هو أن نحبّ، أن ينبض القلب ولو تحطّم إلى نثرات… وما أشعاري إلا نثرات قلبي الفضيّة بالذات”… مارينا تلك أضاءت لنا بعضاً من حياة روسيا في تلك الحقبة، وبعضاً من أشعارها التي جعلت اتحاد الكتاب السوفييت عام 1950 يُقر بها شاعرةً عظيمة إلى جانب “آنا أخماتوفا” الشاهقة التي كتبت لها مارينا في واحدة من شطحاتها:
“تشتعلُ القبابُ في مدينتي الغنّاء، وشحّاذٌ أعمى يمجّد المخلّص المنير، وأنا أهدي مدينتي ذات النواقيس ومعها قلبي إلى أخماتوفا”.
انكسارٌ وانتحار!
كثافة تلك السيرة وتنويعات حياة مارينا بين روسيا والمهجر (برلين/براغ/باريس/الريفييرا الإيطالية…) غزارة القصائد بتنويعاتها المتعددة، علاقاتها، خيباتها وانكساراتها، مواقفها تجاه السلطات زمن ستالين والمنفى وجحيم الحرب على روسيا في حزيران من عام 1941، العيش في ضنك ومن دون سكن، العلاقة المتردّية مع ابنها… كل ذلك سبّب لها وحشة ويأساً أوصلاها إلى الانتحار بعد “أن فقدت كل غالٍ على قلبها: زوجها، ابنتها، أختها، أصدقاءها، ولم يبقَ إلا ابن تحبّه حدّ العبادة لكنها عاجزة عن مساعدته وتجد نفسها عبئاً عليه وعلى نفسها بشكلٍ لا يطاق”!
كل تلك التفاصيل نقلها لنا الدكتور نيوف بكثير من البراعة والاحترافية في التتبع والتمحيص والبحث عن الكثير من المراجع التي أغنت هذا الكتاب النادر الذي ضمّ سيرتها ومجموعة كبيرة من قصائدها بترتيبها التاريخي، ثم ملحقاً يحتوي مقتطفات من دفاترها ويومياتها وبعض من كتابها “معالم أرضية”، ثم ملحقاً ثانياً فيه هدية إضافية هي قصّة لقاءين بين مارينا وآخماتوفا.
تقول مارينا تسفيتايفا:
“أن تُحبَّ يعني أن ترى الإنسان كما أراده الله ولم يُنجزَه الوالدان/
أن لا تُحب يعني أن ترى الإنسان كما أنجزه الوالدان/ أنْ تكفَّ عن الحب يعني أن ترى عوضاً عن الإنسان طاولةً أو كرسيّاً”.