الحرية – ميسون شباني:
يأتي مسلسل “اليتيم” للمخرج السوري تامر إسحاق في موسم رمضان المقبل ليعكس تحولاً جوهرياً في تاريخ الدراما الشامية. بالابتعاد عن الصيغ التقليدية التي طغت على الكثير من الأعمال الشامية في السنوات الماضية، يتوجه هذا العمل نحو تقديم رؤى جديدة تلامس الصراع النفسي والإنساني بشكل عميق، بعيداً عن الشخصيات النمطية التي تعود المشاهد عليها من حيث السرد، الشخصيات، القضايا الاجتماعية، والجوانب الفنية والجمالية.

حكايا إنسانية معقدة برؤية فنية
لا يقتصر العمل على سرد أحداث درامية في بيئة شامية، بل هو بمنزلة لوحة فنية غنية تعرض تحولات اجتماعية ونفسية تتداخل فيها القيم الإنسانية مع الموروث الاجتماعي. وسبق للمخرج تامر إسحاق تقديم أعمال بارزة مثل “وردة شامية” و”زقاق الجن”، ويُواصل تقديم أعمال لا تقتصر على مجرد نقل الأحداث، بل تتجاوز ذلك لتصبح تعبيراً عن تطور في الفهم الجمالي للدراما السورية. عمله الجديد يشير إلى الدراما التاريخية التي لا تهدف إلى التوثيق البحت، بل إلى تقديم رؤية فنية وحكايات إنسانية معقدة ومتعددة الأبعاد.
التجديد البصري الفني والجمالي
يُقدم تامر إسحاق في “اليتيم” تجربة بصرية تحمل جمالية مميزة في التصوير والإخراج، العمل كتب حكايته قاسم الويس وتصدى لبطولته كل من: سلوم حداد، سامر إسماعيل، شكران مرتجى ، فادي صبيح، أيمن رضا، تيسير إدريس، جيني إسبر، لينا دياب، فاتح سلمان، إضافة إلى رهام القصار.. ومن إنتاج شركة قبنض للإنتاج والتوزيع الفني.
ويذهب المخرج إسحاق عبر عين الكاميرا إلى التقاط التفاصيل الدقيقة للمكان والزمان من جهة اختيار الديكورات وأماكن التصوير في دمشق القديمة ليقدم إطاراً واقعياً يدعم السرد الدرامي ويُغني البيئة الشامية التي يعكسها المسلسل. حتى تنقلات الكاميرا والتقاط الزوايا الجمالية تعزز من الإحساس الدرامي وتبني رابطاً قوياً بين المكان والزمان، ما يسهم في جذب المشاهد إلى عالم “اليتيم” بكل أبعاده النفسية والاجتماعية.
حكاية عميقة تحاكي الصراع الإنساني
يستند العمل في بداياته إلى تراكمات من الصراعات التي تمزج بين الدوافع الشخصية والظروف الاجتماعية. وحول شخصية “عرسان”، الشاب اليتيم الذي يجد نفسه في وسط معركة لا تخصه، بعد أن يتسبب عمّه، “هايل”، في جريمة قتل ضد شقيقه طمعاً في الميراث. الصراع هنا ليس فقط على المال، بل هو صراع على الهوية والمستقبل، على المكانة الاجتماعية وحق الحياة.
يتجاوز “اليتيم” في تفاصيله الحكاية البسيطة لتشكّل رواية عن العلاقات الإنسانية المعقدة، حيث تتداخل العواطف والتجارب الشخصية مع الموروث الاجتماعي الثقافي للبيئة الشامية. من خلال شخصية “ديبة”-التي تقدمها الفنانة شكران مرتجى- زوجة القتيل التي تتدهور حالتها النفسية إثر الصدمة، يظهر البُعد النفسي في العمل بشكل واضح. تجسد شخصية “ديبة” تحولاً جذرياً من العقلانية إلى الجنون، وهو ما يعكس مدى تأثير الفقدان على النفس البشرية في بيئة قاسية.
الشخصيات واختلالاتها النفسية والاجتماعية
تحمل شخصية “عرسان”، التي يجسدها سامر إسماعيل تعقيداً خاصاً. فهو شاب يتيم ووسط صراع عائلي، يتعامل مع التحديات الاجتماعية والنفسية التي تواجهه دون أي مرشد واضح. وعلى الرغم من أنه بطل العمل، إلا أن “اليتيم” ليس مجرد سرد لقصة شخص واحد، بل يتسع ليشمل مجموعة من الشخصيات التي تضيف أبعاداً درامية متنوعة.
من بين أبرز هذه الشخصيات نجد “هايل”، عم “عرسان”، الذي يخلق صراعاً داخلياً يدفعه إلى ارتكاب جريمة قتل بهدف الحصول على الميراث. ويطرح العمل في بنائه الحكائي تساؤلاً حول الطمع وتأثيره في تشكيل سلوك الإنسان، خاصة في مجتمعات تسيطر عليها قوى اجتماعية واقتصادية محدودة.
ومن جهة أخرى، تشكّل شخصية “وفاء” -التي تؤدي دورها الفنانة جيني إسبر- صورة للشر والخيانة، فهي لا تتورع عن انتهاك كل القيم الإنسانية لتحقيق مصالحها الشخصية، حتى وإن كان ذلك على حساب أبناء عائلتها. ويظهر الدور بشكل معقد، حيث تكون الأم مثالية في مواقف معينة، ولكن دافع الأنانية يظل يسود سلوكها.
الهوية الطبقية والصراع الاجتماعي
يعكس العمل في تفاصيله قضايا الطبقات الاجتماعية، حيث تتجلى في العلاقة بين “عرسان” و”عليا” -التي تجسدها رهام القصار- يظهر الصراع الطبقي بين الشاب الفقير “عرسان” والفتاة الغنية “عليا”، وهو التمايز الذي يتحدى مفهوم “الحب المستحيل” في المجتمع الدمشقي. الطبقات الاجتماعية في العمل ليست مجرد تفاصيل خلفية، بل هي القوة المحركة للكثير من الأحداث. العلاقة بين “عرسان” و”عليا” تشكل رمزية للصراع بين الفقر والغنى، وهي تسلط الضوء على العواقب النفسية والاجتماعية لهذا الفارق الطبقي في تشكيل العلاقات الإنسانية.

ممازجة بين الواقع والخيال
بجانب العمق الدرامي الاجتماعي، يتبنى العمل الهوية التاريخية في سياق فترة الحكم العثماني في دمشق، ما يُضفي عليه طابعاً تاريخياً فريداً. ولا يلتزم المسلسل بالصيغ الوثائقية الجافة، بل يدمج بين الدراما الإنسانية والتشويق التاريخي، ما يجعل من الأحداث أكثر تأثيراً وحيوية. هو ليس مجرد إعادة سرد لتاريخ دمشق، بل هو إعادة قراءة للواقع الاجتماعي من خلال عدسة الدراما.