الحرية – حنان علي:
لا أنسى ذلك الصباح الشتوي في كلية الأدب الإنجليزي، حين دخل الأستاذ القاعة وهو يحمل بين يديه نسخة من مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت. وضعها على طاولته كلغز مهترئ الأطراف، ثم خاطبنا بالقول:
“اليوم ستدخلون عالم العبث… عالم لا يبحث فيه الإنسان عن إجابات، بل عن معنى التساؤلات ذاتها”.
كنت جوار النافذة، أرقب الضوء المنساب فوق الصفحات، ولم أكن أعلم أن تلك المسرحية الغامضة ستفتح باباً واسعاً من الولوج إلى عالمٍ جديد يخلع عن الحياة أقنعتها، ويكشف هشاشة وجودها، ويجعل من الدلالة لغة ومن الانتظار فلسفة. مضت الأيام ومن بعدها السنوات، تخرجتُ وتابعتُ مساري المهني ولم يأتِ غودو أبداً، وأيقنتُ كم يطيل الإنسان الوقوف بين رجاءٍ لا يتحقق وقلقٍ لا ينتهي!.
غودو الذي لم يأتِ: ولادة تيار غيّر وجه المسرح الحديث
عمق الهاوية
مَثلُ مسرح العبث مثلُ صرخة في الفراغ لا تتناهى لمسامع أحد: “أعرف أنني موجود ..” وفق أداموف : “لكن من أنا؟ فكل ما أعرفه عن ذاتي أنني أتعذب” ويتابع: “في نفسي تشويه وانفصال، وفي كوني تعمُّ الفوضى، هنا يكمن السر”. وسرعان ما يتحول الوجود نفسه إلى سؤال بلا إجابة، فمع الأحداث التي تخللت وقوع الحربين العالميتين، وأدت إلى تفكّك القيم، وتنامي العالم الرأسمالي، برز جيل من الكتّاب رأى أن الإنسان المعاصر يعيش منكفئاً على ذاته، عاجزاً عن التفاهم مع العالم، يجرّ خلفه قلقاً لا يُحتمل. فجاء المسرح العبثي ليصرخ بلسان حاله: “الحياة نفسها عبث… فلماذا نخجل من قول ذلك؟”.
عالم العبث… عالم لا يبحث فيه الإنسان عن إجابات، بل عن معنى التساؤلات
مولد التيار العبثي
في مسرح بابيلون الباريسي، حيث انطلقت الشرارة الأولى في الخامس من يناير 1953 بمسرحية “في انتظار غودو” -التي ألفها بيكيت بين أكتوبر 1948 ويناير 1949- كان الزلزال المسرحي الذي غير وجه المسرح الحديث. فقد قدّم بيكيت شكلاً جديداً للمسرح: مسرحية بلا حبكة تقليدية، بلا بداية أو نهاية حقيقية، بلا حلول…
رجلان ينتظران أحداً لا يأتي، يتحدثان كي يملآ الفراغ، ويضحكان كي لا يسقطا في العدم.
كما شكلت مسرحية “المغنية الصلعاء” ليونسكو – التي أخرجها نيكولا باتاي لأول مرة عام 1950 – أحد الأعمال التأسيسية الأخرى، حيث أدرجت لاحقاً ضمن الكلاسيكيات الحديثة لمسرح العبث. أما مسرحية “المحاكاة الساخرة” (1947) لآرثر أداموف، فمثلت نقطة وصل بين المسرح البرجوازي والعبثي.
بينما قدم جان جينيه أعمالاً أكثر تعقيداً مثل “الخادمات” التي تجاوزت العبث إلى مسرح القسوة.
لماذا العبث؟
يقول ” مارتن إسلن(مؤلف الكلاسيكيات الرائدة “مسرح العبث” و”بريخت” : اختيارالشرور) “إن العبث ليس يأساً، بل محاولة لإعادة الاتصال بالعالم، بعدما فقد الإنسان بوصلته”. فيما يرى الكاتب والمسرحي الأمريكي إدوارد ألبي أن العبث هو بحث الإنسان عن ذاته في عالم بلا معنى، عالم يُصنع فيه الواقع من الوهم، وتُدار الحياة بآلة صمّاء.
رفض كتّاب العبث أمثال: بيكيت ويونسكو، وأرتو أداموف، وجان جينيه، ومن تأثر بهم، الأنظمة الاجتماعية والسياسية السائدة، حيث رأوا في الرأسمالية وحشاً يبتلع الفرد، وفي المؤسسات قوة تسرق أرواح الناس وتملأ عقولهم بخرافات النجاح والبطولة، وتطويعهم لتحقيق مصالح لا إنسانية.
صور متشعبة ولغة مُفرغة
ومن أجل تصوير واقع عبثي فوضوي، يستخدم مسرح العبث صوراً شعرية غامضة ومتشعبة، ويغيَّر أماكن الأشياء كي ينزع من الحياة اليومية الشكل المألوف بأسلوبِ التهكم، معبراً عن ذلك بالتمرد ومستعيناً بالحلم. كما يتخذ مسرح العبث من القلق أشكالاً خيالية لشخصياته، لتنتهي المسرحية عادة كأنها بدأت للتو.
يرى (يان كوت) أن ما يميز مسرح العبث هو «الغروتيسك» المتمثل على مستوى الهيئة والفكر كرؤية إنثربولوجية، خاصة أنه يعالج المأساة وتناقضاتها، من معنى الكينونة والحرية والمصير إلى التفاوت بين المطلق والنظم البشرية الفاسدة.
أما اللغة في مسرح العبث فهي عميقة وذات بعد فلسفي تعبر عن عزلة الإنسان ووحدته، لكنها غير قادرة على تحقيق التفاهم بين الشخصيات، حيث تمسي «الكلمات بالنسبة إليَّ مظاهر صوتية خالية من المعنى كشخصيات أفرغت من سيكولوجيتها، لقد تخيلت نفسي أنني كتبت ما يماثل تراجيدية اللغة!» على حد تعبير يونسكو. وباقتحام اللغة المرئية والسمعية أُفرغت اللغة من محتوياتها وتجردت من وظيفتها التواصلية، بحيث صارت عائقاً بين الناس.
جوهر المسرح العبثي؛ لغة بلا معنى وأبطال بلا مصير
محاكاة هزلية للواقع
أضحى المسرح العبثي تعبيراً عن تجارب درامية وأبعاد ميتافيزيقية، من دون حكاية أو حبكة مترابطة، وإنما عرض لمواقف متناقضة يتراوح فيها الخط الدرامي بين الصعود والنزول والخطيَّة، فضاعت البداية والعقدة والوسط والنهاية بما يتماشى مع فلسفة العبث التي تسخر من كل القوانين المبنية على المنطق. وقد لاقى هذا التيار الجديد نقداً.