الحرية – بشرى سمير:
في قلب البيوت الدمشقية والعائلات السورية، حيث تختلط رائحة الياسمين بعبق التاريخ، تولد وتزدهر العادات والتقاليد التي تظللها نسمات من الدفء الإنساني والبهجة العائلية. ومن بين هذه التقاليد العريقة تبرز عادة “السنونية” كطقس جميل يحول لحظة بزوغ أول سنّ للطفل الرضيع إلى مناسبة فرح واحتفاء تجمع العائلة والأحباب.
نقلة نوعية في حياة الطفل
تقول الدكتورة ندى كلاس باحثة ومهتمة بالتراث الشعبي السوري إن اسم “السنونية” اشتق من “السِن”، وهي كلمة شامية دارجة تعني السن. فهي إذاً الاحتفالية المرتبطة ببزوغ السن. وترمز هذه المناسبة إلى نقلة نوعية في حياة الطفل، فهي علامة على النمو والصحة، وبداية رحلة جديدة تسبق مرحلة الفطام واقتراب الطفل خطوة من عالم الطعام الصلب. إنها بشارة خير للعائلة، تدل على متانة الصحة واكتمال مرحلة من مراحل الطفولة المبكرة.
طقوس الفرح وألوان البهجة
وأضافت: لا تخلو “السنونية” من طقوس خاصة تختلف في تفاصيلها من عائلة لأخرى، لكنها تلتقي في جوهرها: التعبير عن الفرح والمشاركة.
لوحة فنية تبهج الناظرين
ويعد طبق السنونية هو قلب الاحتفال. يُحضّر طبق خاص من الحبوب والبقوليات التي ترمز إلى الخير والبركة، وأشهرها القمح المسلوق، الذي يُمزج عادةً بالسكر والجوز المقطع. يضاف إليه أحياناً العدس والحمص والسمسم، ويرش فوقه السكر الناعم وجوز الهند. يُزيّن الطبق بقطع من الحلوى الملونة وأوراق الياسمين أو الورد، ليصبح لوحة فنية تبهج الناظرين.
وبعد تحضير الطبق بألوانه الزاهية ورائحته الزكية، تبدأ الأم أو الجدة بتوزيعه على الجيران والأقارب والأصدقاء. هذا التوزيع ليس مجرد إهداء للطعام، بل هو إعلان للفرحة ومشاركة للبركة، وتذكير بالروابط الاجتماعية المتينة التي تميز المجتمع الشامي. كل من يتلقى الطبق يدعو للطفل بالصحة والعمر المديد.
وأشارت إلى أنه يصاحب توزيع الطبق تبادل التهاني والتبريكات، مثل “ربنا يبارك فيك”، “عقبال ما تشوفيه بيكبر ويصير عزك”، أو الدعاء المشهور “عقبال المئة”. تكون المناسبة فرصة للقاءات العائلية الدافئة، حيث يتبارى الكل في حمل الطفل والابتسام له، وكأن كل من في الغرفة يساهم في تسهيل عملية البزوغ المؤلمة بفيض من الحب والاهتمام.
السنونية… معان ورموز
السنونية تتعدى كونها طبق حلوى هي نسيج اجتماعي وثقافي. إنها تعكس قيماً راسخة في المجتمع الشامي، مثل الكرم من خلال مشاركة الفرح مع الآخرين، والتكافل الاجتماعي حيث تتحول آلام الصغير إلى مناسبة لتجمع الكبار، والارتباط بالتراث من خلال الحفاظ على طقوس توارثتها الأجيال وفي زمن تسوده السرعة والتفكك الأسري في بعض المجتمعات، تبقى مثل هذه العادات شمعة تنير أهمية البساطة والعائلة والمشاركة. فهي تذكير بأن السعادة الحقيقية تكمن في تفاصيلنا الصغيرة، وفي قدرتنا على تحويل التحديات البسيطة إلى ذكريات جميلة محفورة في القلب مع كل طبق سنونية يُوزع، وكل دعوة ترفع، وكل ابتسامة ترسم على وجه طفل، تستمر حلقة من الجمال والتوارث. إنها عادة تختزل روح الشام الحميمة، روح البيت الذي تفتح أبوابه للفرح، والقلب الذي يتسع للجميع. فتبقى السنونية، بشموعها الرمزية، تنير درب الطفولة بأضوائها الدافئة، وتظل نغمات فرحتها تتردد في أروقة الذاكرة الشعبية، جيلاً بعد جيل.