جمالياتُ الإذاعات الضائعة في صفحات “السوشال ميديا”!

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية- جواد ديوب:

باتَ للكثير من الإذاعات الرسمية والخاصة صفحاتٌ إلكترونية على الفيسبوك أو قنوات على التلغرام، تنشرُ عبرها مشاهدَ مصورة لبرامجها الحوارية “البودكاست” أو نشرات الأخبار أو تلك الحلقات “المسلّية” مثل الأبراج وفنون الطاقة الإيجابية وأحاديث التنمية البشرية و”صور” نجمات الدراما وأحدث موضاتهن وأزواجهن.. حيث بتنا اليوم -نحنُ الجماهير الغفورة- نرى أولاً، ثم نسمَعُ تالياً ما «يُعرَضُ» أمامنا على شاشات موبايلاتنا الأثيرة، في حين كنا -زمنَ البث الإذاعي الذهبي- نضعُ الراديو على رفوف المطبخ أو طاولة الدراسة أو تضعه العاشقات إلى جوارهن قبل النوم، أو يركنه أجدادنا في حضنهم وقت السهرات اللطيفة في القرى… وكنا نشردُ مع أفكارنا مستمتعين بصوت المذيع والمذيعة والضيوف وممثلي الدراما الإذاعية، محاولينَ تتبّعَ نبراتِ الأصوات ونغماتِ الموسيقا وحتى «خشخشات» المؤثرات الصوتية.. لنركّبَ في خيالنا صورَ الوجوه التي تتحدث إلينا من خلف ضباب هذا الجهاز السحري، وسارحينَ في ضحكة المذيعة أو رخامةِ صوت المطربين، كما لو أننا في تواطؤٍ متبادلٍ غيرِ معلن مع “شخوصِ الراديو”، أولئك الذين كانوا يعرفون كيف يصحوا فينا الحنين إلى ضمّةِ عشق آخرَ الليل، أو لصوتٍ يصلُ القلبَ قبل زمنٍ طويل من معرفتنا لشكلِ صاحبه أو صاحبة الصوت!
كأنّ تلك الجماليات تخسرُها الإذاعاتُ اليوم حين تعرض لنا ما ذكرتُ على شكل بوستاتٍ مصوّرة بحجة التماشي مع «موضة» السوشال ميديا التي ربما ربحت جمهوراً إضافياً ومعجبين يُحصَونَ بعدد “اللايكات” وكمِّ التعليقات والتعليقات المضادة، بل إن صفحات الإذاعات المحمولة على موجات وسائل التواصل الاجتماعي خسرت -بالتأكيد- جمالياتها في خلق تلك الفسحة المؤثرة من الخيال الممتع السابح في فضاء الأثير!

كوارث لغوية!

هذا إضافة إلى الخلطة العجيبة الغريبة التي باتت تقدمها لنا بعض الإذاعات الخاصة، فبعضها يخلطُ “عبّاس” الأخبار السياسية على “دبّاس” خزعبلات التنجيم، مع خردل النكت السمجة التي يطلقها المذيعون والمذيعات بضحكاتٍ مجلجلة من اعتقادهم بأن كثرة الضحك سوفَ تزيدُ عدد المتابعين والمستمعين… إضافة إلى الكوارث اللغوية التي يرتكبها مقدّمو النشرات والمذيعون ومقدّمات البرامج الثقافية والفنية والموسيقية كأنّ اللغة العربية الفصحى باتت مذمومة وملعونة، وباتَ من يقاربها “دَقّةً قديمة” لا تتناسب مع “حداثة” الموضة ومعنى المُعاصَرَة وتقلّبات التطبيقات التي تفرضها على البشرية شركاتُ التقنيات العملاقة!

خساراتٌ إضافية!

إنّ ما تخسرَهُ الإذاعات بهذه السطحية في الأداء، وضحالةِ التفكير، ولهاثِ اللحاقِ بعوالم الغبش الأزرق/الفيسبوكيّ، يجعلني أفكر بالخسارات التي تلحق أيضاً بالدراما السورية، حين تنقلُ لنا الحكاية/النص بتقنياتٍ سينمائية باهرة و«فانتازياتٍ» إخراجية مستجلَبَة من عوالم «السوشال ميديا» غِيرةً منها… ناسيةً أن الحكاية/النص الدرامي هو –في رأيي الشخصي- “إذاعةٌ مصوّرة” وليس فقط “صورةً متلفزة”! بمعنى أنها تنسى التركيز على جماليات منطوق الممثلين وأصواتهم المعجونة بالأداء المسرحيّ العظيم، ورخامةِ نبراتهم التي كنّا نكاد «نراها» كما لو أنها «شيء يمكنُ لمسه» لشدة نقاوتها وحلاوتها وصداها في أسماعنا!
يُضاف إلى ذلك كله أن وجود بعض ما يسمّى “المِنصّات الإعلامية” الخاصة مكّنَ من الترويج لأغنيات هابطة وزاعقة، وسهّلَ الانفتاح على موضوعات خارجة عن المألوف، لكنها تُقدَّم بشكل غير مدروس، ومن دون إعدادٍ جيد، حسبَ رغبة أصحاب رأس المال الخفيّ وفكرِهِ الباحث عن الربح المادي أو لنشرِ فكر معيّن قد لا يجد له منفذاً في الإعلام الرسمي… وهذا يفتحُ سؤالاً مهماً:
هل بقيَ اليوم -في زمن الحروب والربح المشبوه-
مَن يريدُ فعلاً أن يستثمرَ في أمور الثقافة والمبادئ والفن الجميل؟!.

Leave a Comment
آخر الأخبار