الحرية- يسرى المصري:
بينما تنطلق الألعاب النارية لتملأ سماء سوريا بألوان العلم الأخضر والأبيض والأسود المرصع بثلاثة نجوم حمراء.. ويحلّق في السماء الشاهين الذهبي فوق المحافظات السورية .. يجتمع المواطنون في الثامن من كانون الأول هذا العام وإن شاء الله كل عام ليس فقط للاحتفال بذكرى التحرير، بل أيضاً ليتلقوا ويرسلوا رسائل محبة وتعاون إيد بأيد وكتف بكتف .. وخرائط لطريق المستقبل.
ويُعتبر خطاب الرئيس أحمد الشرع عشية الاحتفال الرسمي، لحظة دستورية وإستراتيجية فريدة. فهو لن يكون مجرد تقليد احتفالي، بل يمثل ككل خطاباته الوطنية وثيقة تعاقدية بين الدولة والمواطن، تجسد الاستمرارية في الرؤية والتخطيط الإستراتيجي للمستقبل، وتؤطر المشروع الوطني السوري لإعادة إعمار سوريا في سياق عالمي ديناميكي.
خلال عام من التحرير يمكن لكل متابع رؤية حصيلة مسار تنموي بنيوي طويل، مُصاغٍ بلغة الأرقام والتحولات النوعية. والانطلاق من مبدأ أساسي أن ما تحقق من مكتسبات لم يكن ثمرة مصادفة، بل نتيجة لـ لفك العزلة والحصار والعقوبات عن سوريا وهذا النجاح السياسي والمؤسسي، أصبح في حدّ ذاته ميزة نادرة ورأسمالاً إستراتيجياً في بيئة إقليمية ودولية مضطربة.
وتشير الأرقام والإحصاءات إلى استثمارات كبيرة خاصة في قطاعات “المهن العالمية” الإستراتيجية مثل التكنولوجيا والبنى التحتية والطاقات المتجددة والموانئ والطيران هذا الارتفاع لا يعكس تنويعاً اقتصادياً فقط ، بل ارتقاءً لسوريا من اقتصاد متهالك إلى اقتصاد سيكون منتجاً ومهيكلاً، ويرتبط بسلاسل القيمة العالمية.
وتكمن قوة النموذج السوري في الرهان على قدرته على ربط اقتصاد محلي صغير بسوق عالمي هائل. حيث تشير القمم الدولية والمنتديات الاستثمارية العالمية التي شاركت فيها سوريا إلى التوقيع على شبكة معقدة من اتفاقيات الاستثمار و التبادل الحر، ما يمنحها موقعاً فريداً كمنصة استثمارية ورائدة إقليمية.
ولم تكن هذه المكاسب الاقتصادية لتصمد دون رؤية وإستراتيجية دبلوماسية تواكب الطموح. كالمشاريع المهيكلة المستمرة، مثل تطوير البنى التحتية الرقمية والنقل، وكتأكيد على أن التنمية السورية مبنية على رؤية بعيدة المدى. ومن هنا، تنتقل الرسالة من التشخيص إلى الدلالة الأعمق، فالاستقرار المؤسسي والسياسات الرشيدة لم تعد مجرد خيارات إدارية، بل أصبحت رافعة للسيادة الوطنية في عالم يضع معايير النفوذ وفقاً للنجاعة الاقتصادية.
لا يتوقف جوهر عيد التحرير عند استعراض النجاحات، بل إن قيمته الأكبر تكمن في تشخيص التحديات بجرأة وصراحة، بعيداً عن لغة التبرير كالانتقال مابين منطق النمو إلى منطق الكرامة الاجتماعية والعدالة، ووضع المواطن في قلب المشروع الوطني المتجدد.
وبينما تظل التحديات الاقتصادية لإعادة الإعمار على جدول الأعمال، نجد سوريا قد تعاملت بنجاح ودبلوماسية راقية مع ملف العقوبات والمال والاستثمار والمصارف والطاقة والأمن الغذائي والمائي كقضايا وركائز وجودية للدولة، لا تقلُّ أهمية عن الأمن التقليدي. وإنّ وضعَ هذه الملفات في صلب الإستراتيجية يعكس وعياً بتحولات عالم ما بعد الأزمات، حيث صعود مخاطر المناخ يفرض مراجعة شاملة لمفهوم السيادة. لذلك، يتحول استثمار سوريا في الطاقات المتجددة والنظيفة، وتنويع مصادر الغذاء، والتدبير الاستباقي للموارد المائية من سياسات قطاعية إلى مشروع وطني للصمود والاستمرارية.
وفي جوهر التحرير نلمس الملف التنموي والمعيشي للمواطن ويعد من أعقد التحديات الهيكلية ولاسيما في مجالات الصحة والتعليم والخدمات والعدالة . حيث يستند إلى مؤشرات لتشخيص تحولات عميقة في البنية المجتمعية وإشكاليات التنمية المجالية. رغم الإشارة إلى تراجع معدلات الفقر بالتزامن مع خطط زيادة الرواتب والأجور وتحسن مؤشرات التنمية البشرية،.
لقد صاغ الرئيس أحمد الشرع جوهر التحرير بعبارة واضحة، بالتركيز على الرهان على “الشعب السوري الذي عانى معاناة مريرة، وثبت على مواقفه وانتصر” ، ومن فوق المنابر الوطنية والدولية والمنصات العالمية عبّر عن استعداده لأن “أقدم ما تبقى من عمري لأرى سوريا ناهضة وقوية” . هذه اللغة الصادقة والمخلصة أضاءت جوهر التحرير ومنحته شرعيةً شعبيةً على مسيرة التعافي وتدفع نحو تعبئة الطاقات الوطنية لإعادة الإعمار. إن “الاحتفال بالتحرير ليس شعاراً ظرفياً، بل توجُّهاً إستراتيجياً دائماً” يحكم كلَّ السياسات العمومية. وهنا، تتجلى فلسفة جديدة للتنمية تقوم على أنّ العدالة شرط ضروري لأي تماسك اجتماعي ومشروعية تنموية مستدامة.والحل الذي طرحته سوريا لا يراهن على إجراءات جزئية، بل يدعو إلى إطلاق جيل جديد من برامج التنمية تركز على دعم التشغيل، وتحسين الخدمات الاجتماعية الأساسية، وجعل الدولة أكثر قرباً من احتياجات المواطن، خاصة الطبقات الهشة والمهجرة الذين يشكّلون نسبة متزايدة من المجتمع.
ولا يمكن فهم عمق وجوهر عيد التحرير بمعزل عن الاحتفالات في الساحات والأماكن العامة التي تجمع كلّ السوريين وفي كل المحافظات. ففي حين يلتئم الشعب في ساحة الأمويين ، تنظم المحافظات، احتفالاتها الخاصة التي تجمع بين التعبير عن الهوية الوطنية والتراث الثقافي الفريد. هذا التناغم بين المركز الجامع والهويات المتنوعة هو ما يعطي عيد التحرير الوطني مضمونه الحقيقي وتأكيد وحدة المصير وسط التنوع.
ويبقى جوهر عيد التحرير في صيغته السورية الجديدة نموذجاً ملهماً، فهو ينتقل من كونه خريطة طريق سيادية للمستقبل، ويؤسس لعقد جديد بين الدولة والمجتمع، قوامه الصدق في النية، والجرأة في الإصلاح، والعدالة في التنمية.