الحرية- إلهام عثمان:
في الذكرى الأولى لتحرير سوريا ومن دمشق تحديداً، وبينما تتجه الأنظار نحو التحولات الكبرى، يبقى هناك أصوات أخرى تروي قصة المدينة الحقيقية؛ أصوات لا تسمعها في نشرات الأخبار، بل في أزقة الشام القديمة، إنه إيقاع مطرقة نحّاس، وأزيز منشار صانع فسيفساء، وهمس تاجر توابل في سوق البزورية ومبدعو الأغباني.
شواهد من الصمود
و بعد عام من الهدوء الذي طال انتظاره، ذهبنا لنستمع إلى نبض دمشق الذي لم يتوقف يومًا.
في ورشته الصغيرة التي بالكاد تخترقها خيوط الشمس في حي القيمرية، يجلس “أبو حسان”، شيخ كار الموزاييك الدمشقي والذي تجاوز السبعين من عمره، وتجاعيد وجهه تحمل خرائط من الصبر، يقول وهو يصفّ قطعة صدف دقيقة في مكانها: “مرّت علينا سنوات عجاف، كان صوت القذائف أعلى من صوت أدواتنا، الكثيرون أغلقوا وهجروا، لكن هذه الحرفة تسري في دمنا، وأن تتركها يعني.. أن تترك روحك”.
لافتاً إلى أن”التحرير” لم يكن مجرد حدث سياسي بالنسبة له وحاله حال الكثيرين، بل كان “عودة الأمان إلى الطرقات”، و يضيف مسترسلاً: “في هذا العام، بدأنا نسمع لغات مختلفة من جديد، زوار يأتون ليسألوا عن تاريخ هذه القطعة، نعم.. هذا هو الأوكسجين الذي نتنفسه لقد عاد الأمل بأن هذه اليد التي تحمل الإزميل ستُسلّم أسرارها لجيل جديد”.
ذاكرة الياسمين بنكهة جديدة
على بعد أمتار قليلة، في سوق مدحت باشا، يقف “أمين”، الذي ورث محل العطارة عن أبيه وجده، لم يرث المحل فقط بل ورث رائحة الياسمين المجفف والزعفران ليختلط دمه برائحة التاريخ، ويبتسم ويقول: “خلال الحرب، كنا نبيع الأساسيات فقط، كون الناس كانت تبحث عن ما يسد الرمق.. أما اليوم، وفي العهد الجديد، عادت الناس تبحث عن ‘نكهة الحياة’، عادوا يسألون عن خلطاتنا القديمة، عن ماء الورد الأصلي، عن بهارات كانت قد نسيت”.
بالنسبة لأمين، أنه أول أعوام “استعادة الثقة”، فلم تعد البضائع مكدسة خوفًا من الغد المجهول، ويضيف: لقد بدأت عجلة الاستيراد والتصدير تدور ببطء، حاملةً معها أحلامًا بتجاوز حدود المدينة والوصول إلى العالم مرة أخرى، ليس كخبر عاجل، بل كسفير للتراث الدمشقي.
جيل جديد على خطا الأجداد وفي خان أسعد باشا، الذي استعاد بعضًا من بريقه، التقينا “سامر”، شاب في أواخر العشرينيات، يتعلم حرفة “الأغباني” (التطريز الدمشقي)، والذي ترك دراسته الجامعية في الهندسة ليعود إلى ورشة عائلته، ويقول بحماس: “أصدقائي استغربوا قراري، قالوا إن المستقبل في التكنولوجيا، وأنا أقول لهم إن المستقبل يكمن في إحياء ما كاد أن يموت، فهذا العام منحنا فرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير: ماذا نريد أن تكون عليه دمشق؟ هل نريدها مدينة من الإسمنت والزجاج فقط، أم مدينة تحتفظ بقلبها؟”
وهنا يرى سامر وزملاؤه أن التحرير ليس نهاية المطاف، بل هو بداية مسؤولية تاريخية لإعادة بناء هوية المدينة.رأي خبير: التراث كمحرك للتعافي
اقتصاد ذكي
وفي هذا السياق أوضح مروان شحرور خبير في التراث و من خلال حوار مع “صحيفة الحرية”، أن عودة الروح إلى الحرف التقليدية ليست مجرد حالة حنين للماضي، بل هي مؤشر اقتصادي ذكي، فهذه الصناعات تمثل أصلاً ثقافياً فريداً لا يمكن استنساخه، وهي قادرة على جذب سياحة نوعية وخلق فرص عمل حقيقية بأقل تكلفة استثمارية.
و إن دعم هذا القطاع الآن لا يعني الحفاظ على الهوية فقط، بل هو استثمار مباشر في محرك اقتصادي مستدام يمكنه أن يقود جزءاً مهماً من مرحلة التعافي، ويعيد بناء الجسور مع العالم عبر لغة الجمال والإبداع التي تتقنها دمشق”.
ختاماً، بعد عام على التحرير، فإن القصة الأكثر إلهاماً في دمشق ليست تلك التي تُكتب بالحبر السياسي، بل تلك التي تُنقش باليد على النحاس، وتُنسج بالخيوط على القماش، وتُخلط كعطر في زجاجة دمشقية. إن صمود هؤلاء الحرفيين وإصرارهم على الحياة هو التحرير بمعناه الأعمق.