شجرة الميلاد تضيء اللاذقية… والخبز “المشوش” إرث يحييه الأهالي

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – نهلة أبو تك:

يستقبل الساحل السوري شهرَ الميلاد بشتاءٍ لا يبرد، تُشعله الطقوس العائلية وتعيد عبره البيوت والقرى وصل ما انقطع من ذاكرة الطفولة.
فمن شجرة الميلاد التي تلامس أسقف البيوت وتغمرها بالألوان، إلى الحبوبية والخبز المشوّش، تبدو اللاذقية وكأنها تستعيد نفسها وتجدّد روحها مع كل كانون جديد.
ومع تزامن هذه الاحتفالات مع ذكرى التحرير، تتضاعف الرمزية؛ إذ يختلط الفرح الشخصي بالشعور الجماعي بأن الحياة ما زالت قادرة على النهوض رغم قسوة السنوات.

طقوس تبدأ من الشجرة… وتنتهي في القلوب

في الماضي، كانت العائلات تقطع شجرة حقيقية من الغابات وتعتبر ذلك جزءاً من طقوس التحضير للميلاد.
وهذا ما تؤكّده ماري من صلنفة بقولها: في طفولتنا كنا نرافق الكبار لجلب الشجرة من الغابة.. كانت رحلة حقيقية جميلة  اليوم تغيّر الكثير، لكن الشعور نفسه يبقى حين تُضاء الشجرة داخل البيت.

ورغم انتشار الشجرة الصناعية اليوم، إلا أن معناها لم يتبدّل،  فلحظة التزيين لا تزال حدثاً عائلياً بامتياز؛ أيدٍ صغيرة تعلّق الكرات اللامعة، وأخرى تثبّت الأضواء التي تبقى مضاءة طوال الشهر، وكأنها تذكير يومي بأن الضوء لا ينطفئ مهما أثقل الشتاء البيوت بالبرد والقلق.

شجرة الميلاد تُضيء اللاذقية… والخبز “المشوّش” إرثٌ يحييه الأهالي

الحبوبية.. طبق يعيد الناس إلى بعضهم

تتصدّر الحبوبية مشهد عادات الميلاد في الساحل السوري، ورغم بساطة مكوّناته، من قمح مسلوق مع القطر والمكسّرات، إلا أنها تحمل إرثاً طويلاً من التآلف الاجتماعي.
في حيّ العوينة باللاذقية، تقول هنادي للحرية: لا معنى للبربارة إذا لم تُوزَّع، نبدأ بتحضير القمح ليلاً، وفي الصباح نملأ الأوعية ونقدّمها للجيران… فالبيت الذي يطبخ القمح في عيد البربارة يفتح بابه للجميع.
وهكذا يتحوّل الطعام إلى جسر اجتماعي، وإلى طريقة غير معلنة للاطمئنان على الجيران ومشاركة الفرح البسيط.
يبقى الخبز المشوّش أحد أبرز ملامح شهر الميلاد في القرى الساحلية. عجينة تُعجن بزيت الزيتون والفليفلة وحبّة البركة، ثم تُرقّ وتُخبز على التنور، فتنشر رائحة تُعلن قدوم الشهر قبل أي زينة.
وتستعيد ماري من صلنفة تلك اللحظات، فتقول: الخبز المشوّش جزء من صباحات صلنفة في الشتاء… كانت أمهاتنا ينهضن مبكراً لتحضيره، والرائحة كانت تملأ الحارة كلها. كنا نعرف أن موسم الميلاد بدأ من أول رغيف يخرج من التنور.
فالخبز هنا ليس مجرد وصفة، بل مشهد اجتماعي كامل: التفاف النساء حول التنور، حديث يرافق نضج العجين، وضحكات تختلط بالبخار المتصاعد.
تستمر طقوس الشهر عبر تبادل الأطباق وزيارة الجيران وتنظيم فعاليات بسيطة للأطفال، إضافة إلى تزيين بعض الساحات والأحياء بإمكانات متواضعة لكنها محمّلة بالنية الطيبة.
ويؤكد الأهالي أن هذه العادات ليست مجرد موروث شعبي، بل مساحة لالتقاء المجتمع على قيم المحبة والتسامح، وخطوة صغيرة في وجه التعب المتراكم.
كما تستقطب هذه الطقوس الزوار وتقدّم اللاذقية بصورة حيّة تعبّر عن هويتها الساحلية وتراثها المتوارث.
رغم ضغوط الحياة وتفاوت الإمكانيات، يبقى شهر الميلاد على الساحل السوري مساحة مفتوحة للدفء الإنساني واستعادة ما فقدته البيوت من سكينة. فكل شجرة تُضاء، وكل طبق حبوبية يُوزّع، وكل رغيف مشوّش يخرج من التنور… هو إعلان بسيط بأن الفرح ما زال ممكناً، وأن الروح لا تنطفئ مهما تغيّر الزمن.

Leave a Comment
آخر الأخبار