الحرية – علي الرّاعي:
ربما يكون الأديب الإيطالي المُتعدد النتاجات الأدبية (أمبرتو إيكو)؛ أول من تحدث عن ظاهرة “النص المفتوح”، وما كان يعنيه صاحب (اسم الوردة) بالكتابة المفتوحة؛ تلك الكتابة التي تأتي كشكلٍ ناقص وغير نهائي، وخاضع للتأويل.. وثمة تنظيرات أخرى حاولت كسر الفوارق بين النثر والشعر، وبين الأنواع الأدبية وغير الأدبية ببديل هو النص المفتوح رديفاً لهذه الكتابة أو مُلتبساً بها.. والحقيقة إن هذا المصطلح لايزال إلى اليوم يشوبه الكثير من الالتباس؛ فمن ضمن ما تعمّق فيه (ايكو) هو اقتراح فضاء للنص متعدد الاتجاهات بحيث يكتسب النص أكثر فأكثر خصباً يسقطه أو يمليه عليه الآخر- المتذوق, أو المتلقي..
وهذا التأويل الذي على المتلقي أن يُتمم به النص لا يقتصر على النص السردي وحده؛ بل تمتد الكتابة المفتوحة إلى القصيدة الناقصة, والعمل الموسيقي الناقص, والرواية الناقصة كإشارة أولية يتحرك نحوها القارئ من ديناميكية يتضمنها النص نفسه وتُبقي الحوار مفتوحاً مع الآخر.. إنه النص اللانهائي غير المكتمل وغير الناجز, ومن هنا كثُر الحديث ذات حين عن مصطلح آخر اشتق من وحي الكتابة المفتوحة مثل “نص البياض” أو “قصيدة الصمت”..
غير إن الإشكال الذي حصل بعد ذلك؛ حين فهم البعض البياض باقتصاره على استعمال فراغات في الصفحة, أو ترتيب الكلمات أو الأحرف أو الأسطر خلال النص.. أي فهموا البياض كدورٍ زخرفي كما يحدث في القصائد البصرية أو في اللوحات التشكيلية. غير إنّ البياض كما شرحه الكثير من النقاد؛ هو “النقطة أو المساحة التي يُخلفها النص المفتوح في القارئ، وهنا ربما قد يكون النص مرصوصاً بالكلمات، إذاً البياض هي المساحة الشاغرة التي توحي بها القصيدة والتي يُحاول القارئ من تلقاء ذاته أن يملأها أو أن يُكملها..
بهذا المعنى تتوازى كلمتا البياض, والصمت, باعتبار أن هذه المسافة البيضاء بكراً وصامتة؛ يبدأ فيها كلامُ الآخر.. وربما أكثر ما يتجلى البياض والصمت في النصوص الوجيزة التي أمسى لها اليوم بلاغتها المُضادة التي تختلف عن البلاغة التقليدية، وذلك باستخدامها للإيحاء والرمز والإضمار والإخفاء والحذف، والإحالة، والانزياح.. وكلُّ ذلك بكامل التكثيف والإيجاز، طالما أمسى المُتلقي شريكاً في كتابة النص وتأويله رغم المُخاطرة المُحدقة في كلِّ ذلك.