الحرية ـ علي الرّاعي:
تأتي (ظلٌّ يتيمٌ في حقيبة يدي) الثالثة في مجموعات الشاعرة إيفين حمو بعد (عن الذنب الذي في قلبي)، و(غناء في الطريق إلى المقبرة).. هذه “الثلاثية” الشعرية التي تُشكل متتالية سردية وشعرية تُعبّر عن تحولات الوعي الأنثوي والذاكرة الجمعية في ظل واقع ملتبس وربما مُفَتَّت، إذ تكشفُ العناوين الثلاثة مساراً وجودياً على حافة الضياع..
يأتي العنوان في شعر حمو كعتبة نصية تستبقُ عالم القصيدة. فيحمل “عن الذنب الذي في قلبي” إيحاءات دينية واجتماعية، كما يشير إلى حمولةٍ نفسية وأخلاقية، وربما ذنب الوجود الأنثوي في مجتمع كمجتمعاتنا، أو ذنب الناجي من حروبٍ متلاحقة.. يليه “غناء في الطريق إلى المقبرة”، حيث يتحوّل الذنب إلى فعل مقاومة: الغناء؛ إنه غناء في وجه الموت، في الطريق المؤكد نحو الفناء، ما يجعله فعلاً تراجيدياً شجاعاً.
أما المجموعة الثالثة “ظل يتيم في حقيبة يدي”، موضوع مقالنا؛ فهي تُقدّم استعارةً غنية بالدلالة.. فالظل رمز للتبعية والزوال والذكرى، واليتم يُشيرُ إلى فقدان الأصل والحماية، بينما الحقيبة تُمثّل الأمتعة الشخصية والحمل والترحال.. يشي العنوان هنا بشعرية تحمل أثراً منفصلاً عن أصله (الظل اليتيم)، وتحتفظ به في مكانٍ حميم وحمّال (حقيبة اليد).. إنه تعبير عن هوية ممزقة، تحمل أطلال ماضيها أينما ذهبت.
وفي قراءة لبعض النصوص المختارة من الديوان الثالث نجد الشاعرة تُقدّم خارطةً شعرية لمشاعر الفقد والحنين والاغتراب الوجودي.. منها: استعارة الجذر والانتماء الضائع..
“في حقيبتي
أحتفظُ بمنديل جدّي
أحمله دائمًا كأنه خريطة،
لكنه لا يدلّني على مكان..
كلُّ طيّةٍ فيه؛
تشبه خطوط يديه
حين كان يمسح عن وجهي دموعاً
لا أعرف مصدرها..
ذات مساء
فكرت أن أغسله؛
لكنني خفت أن أفقد رائحة التبغ القديمة،
وصوت الحكايات،
الذي يتسلل من بين خيوطه الممزقة..”
في القصيدة أعلاه التي تحمل اسم الديوان، يتحول منديل الجدّ إلى أرشيفٍ عائلي ووجودي.. إنه ليس قطعة قماش، بل “خريطة” لا تدل على مكان، ووعاء لرائحة التبغ وصوت الحكايات.. لدرجة أنّ عملية غسله تشكل تهديداً لمحو الذاكرة (“خفت أن أفقد رائحة التبغ القديمة”). المنديل هنا هو آخر رابط مادي بجذور ضائعة، بأرض – ربما-“لم يعد لها وجود” أو ماض لن يعود.. هنا تُكرّس القصيدة فكرة الهوية التي أصبحت أمتعة يحملها المغترب أينما حل.
“بعد عام من الآن؛
سنكون ظلين مرسومين على جدارٍ متصدع،
لا شيء يتغير
سوى أسماء الفصول،
وأيدينا التي تهرب من دفء بعضها
كأنها لم تلتق أبداً..”
وفي قصائد مثل “وصايا الفجر” و”شظايا نجمٍ لم يكتمل” تكشف عن حوارٍ داخلي مرير.. إذ تُخاطب الشاعرة “العابر من جسدي”، وكأنها تشهد انفصالاً بين جوانب ذاتها.. حيث الصور عن النهر الذي “يبدّل مياهه كلما ابتسمت”، والقلب الذي يُعصر حتى “ينقضّ منه النهر كاملاً”.. هنا تُعبّر عن عطشٍ روحي وعنف داخلي.. وفي “شظايا نجم”، يصبح الحبيبان مجرد “ظلين مرسومين على جدارٍ متصدع”، في صورةٍ قاتمة للعلاقات التي تجمدت وفقدت حيويتها، ولم يبق منها سوى الذكرى المشوهة (“كفن قديم ملطخ بخيبات”).
” يسألني الناسُ كيف أظلُّ
وقلبي في عصرٍ يلتهمُ النبضَ
كأنني نبتةٌ في غيرِ أرضها.
الخوفُ يتسللُ في عروقي
يوقظُ الوجعَ النائمَ كذئبٍ
في ليلٍ جائعٍ لا يرحم.. ”
وتأتي قصيدة “عندما أحببت ظل الوهم” كمرثاة للعلاقات المعطوبة، او التي تُعطب بسرعة. إذ تعترف الشاعرة بأن الحبيب “أكذوبة كبرى، وحلمٌ محرّم”، وتقول: “ربما كان الوهم في عينيّ، أبصرتُ ما لم يكن موجوداً”.. لكن هذا الإدراج لا يأتي من موقع الضعف، بل من موقع الوعي المرير.. في المقابل، تظهر قصيدة “نداء في الريح العمياء” أنثى قوية، تتعلم “أن تُنبت أشواكها من كلِّ قبلةٍ تطفئها”.. هنا الحوار مع الرجل صريح وواضح لا لبس فيه، مليء بالرغبة والصراع: “تعال، لنقسم الليل نصفين”.
” سلمتني أمي حفنةَ ريحٍ باردة
وقالت: هذه بقايا مواويلنا المكتومة
غنيها كما فعلنا نحن.
لكن احذري أن تصيرَ صوتَكِ
وأن تسرق من صدرك الدفء.
حملتها كأحجية ثقيلة نسيتها في جيب معطفي
كبرت معي في الخفاء.. ”
في “أحجية في جيب معطفي” و”الملاك تأخر قليلا”، يظهر دور الأم كحاملة للتراث الثقافي والألم.. فالأم تسلم ابنتها “حفنة ريح باردة”، وهي “بقايا مواويلنا المكتومة”، لكن الابنة ترفض أن ترث “غبارها المتشظي”.. هناك رغبة في قطع سلسلة المعاناة: “كي لا تعرف طفلتي لغة الريح”.. أما في “الملاك تأخر قليلا”، فصورة الأم المتفائلة حيث تمسك القصيدة بلحظة الانتقال من براءة الطفولة إلى وعي القسوة وفقدان الحماية.
تتكرر في المجموعة صور الوجود الهش على الحافة: “على حافة النقاء”، “على حافة سكين خفي”، “كورقة خريف صامتة”.. فتصفُ الشاعرة نفسها بأنها “قابلة للسقوط، للانزلاق، كأوراق شجرة تحلم بعاصفة” (“صورة تراقصها الأضواء المتلاشية”). هذا يعكس حالة اللااستقرار الوجودي، حيث يظل الإنسان معلقاً بين الموت والحياة، بين الذاكرة والنسيان.
“أغلقتُ أبواب الحكاية خلفي،
وسرتُ وحدي على طريقٍ جديد
لا يترك ظلًا للمسافة لكنه يحمل وعد الغد في الصدر..”
إذا تتبعنا مسار المجموعات الثلاث، لاسيما من قراءة العناوين؛ نلاحظ تطوراً في رؤية الشاعرة: “عن الذنب الذي في قلبي”: تركز على الإحساس بالعبء والخطيئة، فالذنب هنا محرك مركزي.
“غناء في الطريق إلى المقبرة”: تحول جوهري من الانكفاء على الذنب إلى الفعل (الغناء)، حتى لو كان في وجه الموت. إنها مرحلة المقاومة بالكلمة والجمال في مواجهة القبح والفناء.
“ظل يتيم في حقيبة يدي”: مرحلة التأمل والتشريح. لم تعد الشاعرة تحمل ذنباً فحسب، ولا تغني فقط، بل تفتح حقيبتها لترتيب آثار رحلتها: ذكريات، علاقات معطوبة، أحلام محطمة، وصور للأم والجد. هنا يسود الحنين المرير والوعي بالانفصال عن الجذور.
” في المساء
كانت أمي ترفعُ يدها نحو القمر
وتقول: انظروا، طاسةُ الله!
ممتلئٌ بأكياس القمح
وصناديقِ الفاكهة
والعتّالون يصعدون من الغيم
ويهبطون إلى الأرض
كأنهم يوزّعون العدلَ على الكائنات..”
إيفين حمو، في مجموعتها الثالثة، تُقدّم شعرية يمكن وصفها بـ “شعرية الحقيبة اليدوية”. إنها شعرية الترحال والمنفى، حيث تصبح القصيدة وعاءً تحملُ فيه الشاعرة أهم ما تبقى لها: ظل هويتها اليتيم..
لغة حمو تتراوح بين الصور الحسية الملموسة (منديل الجد، رائحة التبغ، حبات الرمال) والاستعارات الوجودية المجردة (الغياب، الفراغ، الريح العمياء). بصوتٍ صادق وجريء، لا يخاف من كشف الضعف (“إني أتلاشى رويداً رويداً) ولا من إعلان القوة (“أنا التي تعلّمت أن تضحك حين تنكسر”).. “ظلٌ يتيمٌ في حقيبة يدي” هو ديوان لكلِّ من يحمل في حقائبه ظلاً يتيماً: ظل وطن، ظل حب، وظل ذاكرة.