الحرية: جواد ديوب:
كان أجدادنا العرب -وعلى العكس من جماهير وسائل التواصل والتكتوك والإنستغرام- يتفننون باللغة العربية الفصحى في تسمية درجات الحب و”الفُوَيْرِقَات” (تصغير كلمة فارق) بين كل درجة مثل: الهوى، والصبابة، واللوعة، والوجد، والشجو، والسهد، والوله… إلخ وأفكر كيف أن جماليات هذه التسميات المجدولة مع معانيها وآثارها النفسية كانت تصيب
المحبّين في قلوبهم وأجسامهم وعقولهم وأرواحهم فتتركهم تارةً مثل “مجنون ليلى” هائماً مع غزالات الفلا، وتارةً مثل فارسِ بني عبس عنترة بن شدّاد الذي قال لعبلة:
“اطلبي الإيوان أحمِلْهُ على راحتيّ كِسرى وهاماتِ العَجَمْ/ أو سَليني البِيدَ مهراً أو سَلي ما وراء البيدِ من طيبِ النِّعمْ”
فيما بعض العاشقات الهائمات بـعشّاقهن يتحوّلن إلى طريداتٍ أو شريداتٍ أو هائماتٍ يقُلنَ الشعر ترويحاً عن قلوبهن، مثل ليلى العامرية، وولّادة بنت المستكفي التي قالت:
“ترقّب إذا جنّ الظلامُ زيارتي/ فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمُ للسرِّ/ وبي مِنكَ ما لو كانَ بالشمسِ لم تلُحِ/ وبالبدر لم يطلعِ وَبالنجم لم يسرِ”،
أو ما قالته حفصة بنت الحاج الركونيّة:
“أغارُ عليكَ من عَينَيّ رقيبي/ ومِنكَ ومن زمانِكَ والمكانِ.. ولو أنّي خبأتك في عيوني/ إلى يوم القيامةِ ما كفاني”.
وأحزنُ كيف تحولت اللغة العربية بين يدي بعض شباب هذه الأيام إلى لغةٍ خردة؛ كأنهم جلبوها من سوق الأدوات المستعملة أو من سوق البالة. كأنهم يعلكونها ويدعكونها ويمرّغونها بوحل الفيسبوكيات ومهاترات الذكاء الاصطناعي الذي يمسخها بدوره كأنما هناك “هجمة حقيقية” تجاه اللغة العربية وتاريخها وأصالتها، لدرجة تجعل المستمعين إلى كوارث النطق الاصطناعي ينفرون فعلاً من إكمال المقطع، بل أصبح الكثيرون من الأجيال الحالية يبتعدون عنها كأنها “وصمة عار” أو موضة قديمة يجب عليهم التخلص منها.
خيطُ الإخلاص الرفيع!
أعيد أحياناً مشاهدةَ حلقات من مسلسل “الكواسر” (لكاتبه هاني السعدي)، وحلقات من مسلسل “الزير سالم” وأستمتع بنُطق الممثلين للغة العربية، يا إلهي ما أجملَ هذه الحوارات المشغولة بصدق! بل من شدة إتقانهم وشدة اندماجي بالمَشاهِد كثيراً ما أنسى أنهم يتحدثون باللغة العربية الفصحى!
إنه فعلاً ذاك الخيط الرفيع بين أن تجعلنا ننجذبُ إلى لغتك الحوارية ولغتك البصرية أو أن تجعلنا “نكفر” بكَ وبمن علّمك العربية، وبمن أفسح لك المجال لتكتب بها السفاسف سواء في الدراما أو على صفحات التواصل الاجتماعي.
قد يبدو للحظة أن الأمرَ عاديٌّ وأنها مجرّد كلمات للتسلية هائمة في هذا الغبش الأزرق للفيسبوك؛ لكن هذه السفاسف أصبحتْ عادة مخيفة تكاد تطيح ليس فقط بجماليات اللغة العربية بل حتى بأبسط قواعدها الإملائية، وبالتالي بمكوّن من مكونات شخصيتنا؛ فاللغة على ما تقول الحكمة “هي وعاءُ الكينونة”.
مصائب إملائية!
أمّا أكثرهم إزعاجاً لي شخصياً؛ فهو ذاك أو تلك التي تكتب مثلاً: “هل الغنية حلوة” أو “هل الممثل فلّاج” دون ان يكون القصد هو سؤال يبدأ ب(هل) إنما المقصود هو (هالغنية الحلوة، هالممثل الجميل”… وليتهم كتبوها بهذا الشكل على الأقل؛ بشكل لا يكلّفهم تعباً ولا مالاً ولا فضيحةً ولا مَنْ يشتمون!
هذه عيّنة بسيطة قد تكون مضحكة لكنَّ المصائب الإملائية والنحوية؛ أصبحت هي السائدة من دمجٍ للعربي بالإنكليزي، ومسْخِ الإنكليزي وإبداله بأرقام ورموز، ثم الموضة الحديثة التي درجت مؤخراً باستخدام ما يتيحه الفيسبوك و”الواتساب” من “إيموجي” ورموز لترتيبها جوارَ بعضها وتشكيل جُملٍ ألغازٍ أو جُملٍ يَعدُّها أصحابها أنها “النهفات الخارقة” أو نُكتُ الموسم وقنابله المضيئة.
ترفقوا بقلوبنا!
لست أدعو بالطبع إلى أن يدبّج الشباب قصائد معلقات، ولا أن يبتدعوا أشعاراً عابرة للزمن والثقافات، مثل تلك التي ابتدأت بها مقالتي، ولست أدعوهم إلى لغة عربية “خشبية” غير مفهومة؛ فتصّور يا عزيزي “المتفَسبِك” أن تقول: اللهم إنّي أسألك امرأةً عيطموساً، بَهْنانةً!
أو أنْ تدعين ربّك في جوف الليل يا عزيزتي “الإنستغراميّة”” فتقولي:
يا ربّ اعطني زوجاً سِنخفاً، رخّاخاً!
لكن على الأقل إن لم ترغبوا أن تترفّقوا بقلوبنا وعقولنا… فترفقوا بهذه اللغة العربية العظيمة!