الحرية – نهلة أبو تك:
في مرحلة دقيقة من مسار الاقتصاد السوري، يعود الملف النقدي إلى واجهة النقاش العام، مع تأكيد مصرف سورية المركزي أن مشروع إصدار العملة الوطنية الجديدة بلغ مراحل متقدمة، في خطوة تهدف إلى إعادة تنظيم التداول النقدي وتحسين كفاءة المعاملات اليومية، بالتوازي مع مؤشرات رسمية تشير إلى تراجع نسبي في التضخم وتحسّن محدود في البيئة الاقتصادية.
غير أن هذا الإعلان، مهما بلغت أهميته، لا يمكن اعتباره إجراءً تقنياً معزولاً، بل يأتي ضمن مسار أوسع يسعى فيه المصرف المركزي إلى إعادة ضبط العلاقة بين السوق والعملة الوطنية، واستعادة ثقة المواطنين التي تآكلت خلال سنوات من التضخم المرتفع، وتشوّه الأسعار، وتراكم النقد غير المنتج، ما أثّر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للأسر والقدرة على التخطيط المالي اليومي.
أكثر من مجرد ورقة
يرى الخبير الاقتصادي د. مروان حسن حراج أن الحديث عن إصدار عملة جديدة أو إعادة هيكلة الفئات النقدية لا يعني مجرد تغيير في شكل الأوراق، بل يعكس تحوّلاً في فلسفة إدارة السياسة النقدية نفسها.
ويؤكد الحراج أن السنوات الطويلة من التضخم فرضت على المواطنين التعامل اليومي بأرقام كبيرة جدًا، ما أدى إلى ضعف كفاءة التداول، وأربك التسعير، وخلق حالة من الفوضى في المعاملات اليومية. وهو ما جعل إعادة تنظيم الفئات النقدية خطوة ضرورية لتبسيط التعاملات اليومية، وتقليص حجم النقد المتداول، وربطه بالنشاط الاقتصادي الفعلي، مع مراعاة تخفيف أي صدمة محتملة على المواطن، خصوصًا الفئات الأكثر هشاشة اقتصادياً.
ويشير الحراج إلى أن أي تغيير محتمل في شكل الأوراق يجب أن يُفهم ضمن سياق إدارة السيولة وضبط الكتلة النقدية، وليس كحل سحري لمشكلات اقتصادية أعمق، مؤكداً أن أي خطوة نقدية منفردة ستظل محدودة الأثر إذا لم تصاحبها إجراءات داعمة على مستوى الاقتصاد الكلي والواقع المعيشي للمواطن.
ضبط السوق
يأتي بيان مصرف سورية المركزي الأخير حول التعامل مع الفئات النقدية المتداولة كخطوة تحضيرية أساسية ضمن مسار الإصلاح النقدي، وليس مجرد رد إداري على شكاوى متفرقة.
وقد شدد البيان على أن جميع الأوراق النقدية المتداولة حالياً هي عملات رسمية قانونية وملزمة للتداول دون أي تمييز، مؤكداً أن الامتناع عن قبول أي فئة يُعد مخالفة صريحة للقوانين.
ويكتسب هذا التأكيد أهمية خاصة في ظل ممارسات شائعة مؤخراً، تمثلت برفض بعض الفئات أو منحها خصومات غير معلنة، ما أربك التعاملات اليومية، وخلق أعرافاً غير رسمية تهدد ثقة المواطنين بالليرة، وتفقد السوق توازنها، ويشير الحراج إلى أن هذه الأعراف، إن استمرت، قد تُشكّل أعباء إضافية على الأسر وتجعل التسعير اليومي غير شفاف، وهو ما يزيد من صعوبة التخطيط المالي الشخصي ويضع ضغوطًا اجتماعية على شرائح واسعة من المجتمع.
أولوية استراتيجية
ويؤكد الحراج أن تشديد المصرف المركزي على إلزامية التداول بكل الفئات يندرج ضمن سياسة احترازية لحماية وحدة النقد الوطني، لافتاً إلى أن خطورة الممارسات غير الرسمية لا تكمن في فئة معينة، بل في تشوهات السوق التي تؤثر مباشرة على حياة المواطن اليومية وتربك الدورة الاقتصادية.
ويشير الحراج إلى أن أي تغيير في شكل العملة أو فئاتها، إن تم، سيكون حصراً بقرار مؤسساتي مدروس، وليس نتيجة شائعات أو اجتهادات فردية، مؤكداً أن احترام الإجراءات الرسمية شرط أساسي لحماية استقرار الأسعار والثقة العامة، وهو ما يعكس إدراك المصرف المركزي لأهمية حماية الجانب الاجتماعي من أي خطوة نقدية مفاجئة.
بين التفاؤل والتحذير
وفي هذا السياق، يحذّر الحراج من المبالغة في الرهان على العملة الجديدة وحدها، معتبراً أن نجاح أي خطوة نقدية يبقى مشروطاً بإصلاحات أوسع يشعر بها المواطن مباشرة في معيشته اليومية، تشمل استقرار سعر الصرف، ضبط الأسعار، دعم الإنتاج المحلي، وتعزيز الثقة بين الناس والمؤسسات المالية، محذراً من أن تجاهل البعد الاجتماعي قد يفرغ أي خطوة نقدية من مضمونها الحقيقي ويزيد من الضغط على الفئات الأكثر هشاشة.
ويشير الحراج أيضاً إلى أن أي حراك اقتصادي دون مراعاة تأثيره على حياة الناس اليومية سيواجه مقاومة ضمنية من السوق، فقد يتبنى البعض ممارسات غير رسمية لتجنب أي خسائر محتملة، وهو ما يؤكد أن إعادة الثقة للمواطن شرط أساسي لنجاح الإصلاح النقدي.
تهيئة الثقة
في المحصلة، يبدو أن الإصدار المرتقب للعملة السورية لا يمكن فصله عن إجراءات ضبط السوق الجارية، فالمساران متكاملان في محاولة لإعادة ترتيب المشهد النقدي تدريجياً.