“الحرب على الفقر”.. من الرؤية إلى خارطة الطريق الاقتصادية

مدة القراءة 8 دقيقة/دقائق

الحرية – إلهام عثمان:

في منعطف تاريخي ترسم فيه سوريا ملامح مستقبلها الجديد، جاءت كلمة السيد الرئيس أحمد الشرع للمشاركين في حملة “حلب ست الكل”، لتضع حجر الأساس لأولوية وطنية جامعة، مفادها “القضاء على الفقر”، تصريح وجهه للمشاركين في حملة “حلب ست الكل”.
هذا التصريح لا يمثل مجرد التزام أخلاقي تجاه المواطنين، بل هو إيذان ببدء مرحلة جديدة تتطلب تحولاً جذرياً في الفكر والسياسات الاقتصادية.

اقتصاد ما بعد الأزمة

وانطلاقاً من هذه الرؤية، لا بد من البحث عن الأدوات والآليات العملية اللازمة لتحويل هذا الهدف الاستراتيجي إلى واقع ملموس، الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية حول كيفية بناء نموذج اقتصادي قادر على توليد الثروة وتوزيعها بعدالة، بما يضمن رفع مستوى المعيشة لجميع السوريين.

خربوطلي: القضاء على الفقر يجب أن يكون المشروع الاقتصادي الأهم في سوريا وخاصة أن حدوده تجاوزت المستويات المقبولة عالمياً ومحلياً

خطوات مدروسة

من الخطوات العملية والفورية التي يجب اتخاذها لتنشيط الأسواق، أوضح د.عامر خربوطلي مدير عام غرفة تجارة دمشق، في حوار خاص مع صحيفة “الحرية”، أن رفع العقوبات بشكل نهائي يعد خطوة بالغة الأهمية، لكنه أيضاً ليس الشرط الوحيد لدفعة عجلة الاقتصاد؟! و السبب.. أن الأسواق تعاني أصلاً من شح في السيولة وضعف في الدخل، ما يجعلها بحاجة ماسة إلى أسواق خارجية واستثمارات كبرى، لإيجاد حالة من التشغيل والعمالة، وبالتالي زيادة الدخل والإنفاق والاستهلاك.

كما شدد خربوطلي على ألا يقتصر ذلك على المدن الكبرى، بل يجب توزيع المشاريع حسب الخارطة الاستثمارية لكل منطقة، مع ضرورة الربط بين هذه الأعمال على مستوى المحافظات لضمان تحقيق تنمية اقتصادية شاملة.

طلب حقيقي

أما عن آلية تحفيز الاقتصاد دون إثارة التضخم، خاصة عند زيادة الرواتب، يجيب خربوطلي بأن أي زيادة لا تكون ممولة بالعجز هي أمر إيجابي، وبعبارة أخرى، يجب أن تأتي الزيادة من موارد حقيقية كالضرائب والرسوم وإيرادات الحكومة المختلفة، بهذه الطريقة يمكن توفير طلب حقيقي وفعال في السوق ليحرك عجلة الإنتاج، بدلاً من أن تتبخر قيمة الزيادة مع ارتفاع الأسعار، كما حدث مؤخراً.

 

تحقيق التوازن بين الطلب والعرض الكلي.. يلعب المغتربون والسياح دورًا حيويًا في تنشيط الطلب

الفقر.. تحدٍ غير مسبوق

وفي نقطة محورية، لفت خربوطلي إلى أن القضاء على الفقر يجب أن يكون المشروع الاقتصادي الأهم في سوريا، لا سيما أن حدوده تجاوزت المستويات المقبولة عالمياً ومحلياً، وهو أمر غير مسبوق، شارحاً.. فبعد أن كانت الطبقة الوسطى هي المسيطرة، أصبحت الآن ضئيلة جداً، حتى إنها لامست خط الفقر المدقع.
وأن الحل ليس مالياً بحتاً، بل هو إنتاجي استثماري في المقام الأول، هذا ما أكده خربوطلي، فبمجرد دخول الاستثمارات وتوفير التمويل للمشروعات بكل أحجامها، سيتم خلق فرص عمل حقيقية تخفف من حدة الفقر، لكنه.. استدرك قائلاً: إنه في ذات الوقت، يجب محاربة التضخم الذي يزيد الفقير فقراً والغني غنىً، ما “يزيد الطين بلة”.

دور القطاع الخاص والمغتربين

أما عن الدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص والمغتربون، فقد بيّن خربوطلي أن القطاع الخاص يشكل بالفعل نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي، ودعا إلى ضرورة أن ينقل المغتربون تجاربهم الناجحة في الخارج إلى الداخل، عبر مشاريع إنتاجية وزراعية وصناعية وسياحية وتكنولوجية، ما سيؤدي حتماً إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي ودخل الفرد، لتعود سوريا جاذبة للعمل والاستثمار كما كانت في فترتها الذهبية، غير أن ذلك، يحتاج إلى بيئة استثمارية آمنة ومشجعة، تدعمها تشريعات وحوافز واضحة.

حزمة من الإصلاحات

وأكد خربوطلي أن بيئة الاستثمار في سوريا قد شهدت تحسنًا ملحوظًا بفضل التعديلات الأخيرة على قانون الاستثمار، ولكي تكمل هذه التعديلات ثمارها المرجوة، شدد على ضرورة الإسراع في تنفيذ حزمة من الإصلاحات المتكاملة، و تشمل الجوانب المالية والنقدية والتجارية، والتي يجب أن تحظى بمصادقة تشريعية سريعة.

وأوضح أن الهدف من هذه الإصلاحات هو تبسيط الإجراءات الإدارية، وتقليل تكلفتها، والقضاء على الروتين عبر التحول الرقمي، ما يخلق بيئة جاذبة تشجع المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.

و أشار خربوطلي إلى أن القطاع المصرفي، بشقيه التقليدي والإسلامي لا يؤدي دوره المنشود حاليًا، سواء في الإيداع أو الإقراض. ويرى أن تفعيل هذا القطاع يتطلب تحقيق استقرار اقتصادي ونقدي شامل، وفي مقدمته كبح جماح التضخم، وأضاف إن تحقيق التوازن بين الطلب والعرض الكلي، نقديًا وسلعيًا، يعد أمرًا بالغ الأهمية لضمان دوران العجلة الاقتصادية بشكل طبيعي ومستدام.

ويرى أن هذه الإجراءات، إن تم تطبيقها بفعالية، ستؤدي إلى توفير بيئة أعمال مشجعة، مرنة، وعادلة، وهو ما ينسجم مع توجهات الحكومة نحو اقتصاد حر تنافسي يعتمد على آليات السوق كأحد عوامل النجاح الرئيسية.

تحديات هيكلية

وفيما يتعلق بسوق العمل الذي يواجه تحديات هيكلية ومعدلات بطالة مرتفعة، أوضح خربوطلي أن اليد العاملة السورية تتمتع بالمهارة والكفاءة، لكنها في ذات الوقت تحتاج إلى إعادة تأهيل لمواكبة التطورات التكنولوجية العالمية التي ابتعدت عنها خلال السنوات الماضية.
وأن سوريا اليوم بحاجة ماسة إلى استثمارات جديدة قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل، وأن التشغيل هو المحرك الرئيسي للنمو.

تنشيط الطلب

وختم خربوطلي بالقول: إن هذا المحرك لا يعمل إلا باتساع الأسواق وتحسن الدخل الفردي، وتبدأ هذه الدورة بعمليات التصدير التي تمكّن الشركات من زيادة أرباحها وتوظيف المزيد من العمالة، ما يرفع دخول الأفراد وقدرتهم على استهلاك السلع والخدمات المحلية.

كما يلعب المغتربون والسياح دورًا حيويًا في تنشيط الطلب، ما يؤكد على أهمية الاستعداد للمرحلة القادمة عبر التدريب والتأهيل المستمر للكفاءات الوطنية.

حبزة: سوريا اليوم بحاجة ماسة إلى استثمارات جديدة قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من الباحثين عن عمل  والتشغيل هو المحرك الرئيسي للنمو

لا إصلاح دون كسر القيود

من جانبه، يرى أمين سر جمعية حماية المستهلك، عبد الرزاق حبزة، أن إنقاذ الاقتصاد يتطلب إجراءات حاسمة وفورية، تبدأ بخفض كلف الإنتاج عبر تيسير الحصول على المواد الأولية وتخفيض أسعار الطاقة، و أن رأس المال بطبيعته “جبان”، وأن القطاع الخاص لن يغامر بالاستثمار ما لم يتم توفير بيئة آمنة ومستقرة مصحوبة بضمانات حقيقية.

تخدير إعلامي

وفيما يتعلق بالوضع النقدي، يعتبر حبزة أن الحديث عن الاستقرار النقدي هو مجرد “وهم” ما لم يتم توحيد أسعار الصرف ومكافحة ظاهرة “الدولرة” بصرامة، مع إلزام الجميع بالتسعير بالليرة السورية حصراً، ويؤكد على أن أي طرح لإلغاء الأصفار من العملة دون تحقيق هذه الشروط الأساسية لا يعدو كونه “تخديراً إعلامياً”.

حبزة: زيادة الأجور دون نمو موازٍ في الإنتاج تؤدي إلى تفاقم التضخم

فخ زيادة الأجور

كما يصف حبزة العلاقة بين الأجور والتضخم بأنها “فخ”، فزيادة الأجور دون نمو موازٍ في الإنتاج لن تؤدي إلا إلى تفاقم التضخم، وبالتالي لن يشعر المواطن بأي تحسن حقيقي، خاصة مع استمرار ارتفاع أسعار معظم الخدمات التحتية، وأهمها المحروقات والكهرباء و التي تبدو وكأنها “مُسعّرة بالدولار سراً”.

مسار وحيد

ويكمن الحل الجذري من وجهة نظر حبزة في العودة إلى الأساسيات، عبر دعم قطاعي الزراعة والصناعات التحويلية، وتشجيع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى إجراء مراجعة شاملة للقوانين الضريبية التي وصفها بـ”المجحفة”، والتي أدت إلى الشعور بالغبن وفتحت باب التلاعب.
وأن الاعتماد على الإنتاج المحلي هو المسار الوحيد للخروج من الأزمة، لكن هذا المسار يتطلب دعماً حقيقياً وملموساً لمدخلات الإنتاج وتسهيلات جادة للتصدير، بدلاً من مجرد انتظار المساعدات الخارجية أو التعويل على متغيرات لم تجلب سوى المضاربات.

Leave a Comment
آخر الأخبار