ترجمة- حنان علي:
وجدتُ نفسي مع المنتجة فاي لوماس، في ظهيرةٍ صيفيّة لا تعرفها إلا سان فرانسيسكو، داخل قصرٍ مترفٍ في عمق وادي السيليكون —قطب التكنولوجيا الأمريكية- بين أروقة فيلات مشيّدة وسط فردوسٍ من الزجاج والرّخام والحدائق اليابانية المنسّقة. قبل أن يُسمعني المكان الذي يمزج بين عبق الترف وبريق المستقبل، عبارته الثقيلة: «جميع المبدعين المحترفين سيصبحون قريباً من الهواة». لم تكن جملةً عابرة أو نبوءةً مجازية. فقد تسللت كما ينسل خبرُ طقس اليوم من إحدى المحطات.
البشر يُستبدلون، والموسيقا التي لطالما سافرت عبر القارات، تُعاد صياغتها الآن بلا روح
بشرية
البشرُ يُستبدلون
أعمل مؤلفاً موسيقياً، وأخطو بخطى حذرة نحو مشروعٍ وثائقي مع BBC Radio 3 بعنوان The Artificial Composer، حيث أستقصي التقاء الموسيقا الكلاسيكية بموجة الذكاء الاصطناعي العاتية، الأمر بدأ بفضولٍ بسيط: «هل الذكاء الاصطناعي عونٌ للفنان حقاً؟» غير أنّ السؤال لم يلبث أن تحوّل إلى هاجسٍ وجوديّ: «أم أنه سيغدو يوماً بديلاً منه؟ » وسمعتني أهمس لنفسي: « أعليّ الآن النظر إلى نهاية مهنتي!» وسرعان ما تسللت إلى ذهني صورةٌ من الماضي — حفل Oasis الأسطوري في Knebworth House عام 1996، حين لوّح ربع مليون إنسان بولّاعاتهم تحت جنح ظلامٍ دامس، يغنون بصوتٍ واحد، قبل أن تغيّرنا الثورة الرقمية إلى الأبد. لعلّ ما نعيشه اليوم لم يعد تساؤلاً عن كيفية الاستماع، بل عمن يولد النغمات؟ لماذا؟ ومتى؟ في ذلك القصر المترف، أنذر صمت الإجابة بحدث جلل: البشر يُستبدلون، والموسيقى التي لطالما سافرت عبر القارات، تُعاد صياغتها الآن بلا روح بشرية. ومنذ أُعلن عن مبادرةٍ في المعهد الملكي للباليه والأوبرا تحت عنوان: RBO/Shift لاستكشاف تفاعل الفنون مع الذكاء الاصطناعي، لم أجد في البيان سطراً واحداً يلمّح إلى أجوبة الأسئلة الحقيقية: أين تُخزَّن البيانات؟ من يملكها؟ ماذا عن الفنانين؟ عن وظائفهم؟ عن الأثر البيئي؟
هل المؤسسات الإبداعية محقة في تفاؤلها بشأن الذكاء الاصطناعي. هل نحن من نركب الموجة أم إن الموجة تُغرقنا؟
خوارزميات ولكن!
ذلك الصيف الذي قضيناه وسط دوّامةٍ من الشاشات والمختبرات والرموز، أفشى عن زمنٍ يجلب المستحيل فسألت فاي بهدوءٍ: «هل سيقضي الذكاء على عملي؟» فكان صمتها جواباً أبلغ من أي نبوءة: «ثمة شيء بدأ يتبدّل فينا».
تأملت متفكراً بيني وبين نفسي، فأنا بالفعل لا أرى الذكاء الاصطناعي عدواً. بل مرآةً — أداةً ممكنة، لكن ما قيمة المؤلّف إذا كانت الخوارزميات تصوغ نوتته؟ ما معنى أن يكون موسيقياً حين تتنفس الآلة بدلاً منه؟ وبينما تعلن المؤسسات بحماسة: «نحن نركب الموجة»، يهمس المبدعون الحقيقيون بثقة: «نحن نتحكّم في المدّ». وهناك، وسط ضجيج الخوارزميات، أدركتُ أن آخر ما يُستبدل في هذا العالم هو النفس البشرية، فالموسيقيُّ يتغيّر، لكن شيئاً من إنسانيته — تلك الرعشة التي تسكن بين نوتتين — لا ريب أنها تبقى.
ما قيمة المؤلّف إذا كانت الخوارزميات تصوغ نوتته؟ ما معنى أن يكون موسيقياً حين تتنفس الآلة بدلاً منه؟
قد يظن البعض أنني بتُّ من الماضي، لكنّ جمهوري لا يزال ينتظرني في مكان ما، وها أنا أطرح على صفحات هذه الصحيفة، سؤال الغد:
إن كان الأمس مأوى الموسيقا، فهل نحن مستعدّون أن نغدو أكثر من مجرد هواةٍ في عالم الآلة؟
المصدر: الغارديان
بقلم: طارق هاميلتون أوريغان؛ مؤلف موسيقي وملحن بريطاني وأمريكي.