الحرية – نهى علي:
تعيش سوريا في مرحلة ما بعد الحرب لحظة مفصلية تستدعي إعادة صياغة علاقتها بذاتها، وبمفهوم الدولة، وبالبيئة الاقتصادية الإقليمية والدولية.. ولم تعد التنمية مجرّد عملية لإعادة البناء، بل أصبحت فعلاً سيادياً يتطلب إعادة تعريف شاملة للأطر القانونية والمؤسسية الحاكمة للنشاط الاقتصادي، خصوصاً في مجالات الاستثمار، وتكوين الشركات، والنظام المالي.
لقد بات جلياً أن أي مسعى للتعافي الاقتصادي من دون إصلاح هيكلي عميق للبنية التشريعية، سيكون محكوماً عليه إما بالفشل، أو بإعادة إنتاج النموذج الريعي الهش الذي ساد لردح طويل من الزمن.
إذ نبدو اليوم أمام خيارات مفصليّة لا بدّ من أن نحسن التقاط وانتقاء مفرداتها، بما يتناسب مع الرؤية الطموحة التي تم الإعلان عنها .. لسوريا الجديدة..لذا يبدو التساؤل الاستراتيجي اليوم هو ذلك المرتبط بإعادة تهيئة بيئة الانطلاق والتأسيس على ركائز راسخة، تستدرك هفوات الماضي الكثيرة.
د. ريا: معظم قوانين الشركات السورية تأسست ضمن بيئة ريعية أو منكمشة.. حيث هيمنت الدولة على معظم النشاطات الاقتصادية.. واقتصر دور القطاع الخاص على هوامش الإنتاج والخدمات
هنا يقدم الخبير الاقتصادي الدكتور المهندس سلمان ريا في حديثه لصحيفتنا “الحرية”، قراءة تحليلية نقدية للإطار القانوني السوري في بُعده الاستثماري، استناداً إلى ثلاث ركائز يراها مركزية.. أولها قانون الشركات، وثانيها قانون المصارف، وثالثها يتمثّل بضرورة تطوير تكتلات مالية مرنة تًسهم في التحول البنيوي نحو اقتصاد إنتاجي تنافسي، يتكامل مع المتغيرات الإقليمية ويُعيد تثبيت السيادة الوطنية على القرار الاقتصادي.
قانون الشركات
في البعد المتعلق بقانون الشركات.. والارتقاء به من التنظيم إلى التمكين المؤسسي، يرى د. ريا أن معظم قوانين الشركات السورية أسست ضمن بيئة ريعية أو منكمشة، حيث هيمنت الدولة على معظم النشاطات الاقتصادية، واقتصر دور القطاع الخاص على هوامش الإنتاج والخدمات.
أما اليوم، ومع الانتقال التدريجي من اقتصاد مدمّر إلى اقتصاد يسعى للنمو والانفتاح، فإن إعادة تعريف “الشركة” لم تعد ترفاً قانونياً، بل ضرورة مؤسساتية.
إذا يؤكد الخبير ريا، أن المرحلة الحالية تتطلّب تطوير بيئة تشريعية تسهم في تمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وذلك من خلال توسيع نطاق الشركات محدودة المسؤولية، التي تمتاز بمرونة التأسيس، وحماية الملكية الشخصية، وسهولة الدخول إلى السوق. ولكن بناء اقتصاد تنافسي لا يتحقق فقط عبر هذه الشركات، بل يتطلب أيضاً استحداث كيانات تنظيمية قادرة على إدارة الاستثمارات المعقدة ومتعددة القطاعات.
مكوّن إستراتيجي
في مثل هذا السياق تبرز الشركات القابضة، وحتمية استثمارها لترسيخ تنظيم مؤسساتي متقدم… إذ تمثل الشركات القابضة من وجهة نظر د. ريا..شكلاً متقدماً من التنظيم الإداري والمالي، يُتيح إدارة مجموعة متنوعة من الشركات من خلال كيان مركزي.. وتكتسب أهميتها في السياق السوري انطلاقاً من جملة من الاعتبارات الهيكلية…
أولّها..تمكّن هذه الشركات من تحقيق التكامل الرأسي والأفقي ضمن سلاسل الإنتاج والتوزيع.
وثانيها.. تشكّل أدوات إستراتيجية لتجميع رؤوس الأموال المبعثرة في سوق يعاني من ضعف السيولة وغياب الثقة، ما يتيح دخول المستثمرين بشكل مرن ومتدرج.
أما ثالثها.. فهو أنها تتيح إدارة فعالة للمخاطر من خلال تنويع الاستثمارات جغرافياً وقطاعياً، وتعويض الخسائر عبر إعادة تدوير الأرباح.
وفي البعد الرابع، تشكّل الشركات القابضة الإطار الأمثل لعقد الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ولاسيما في القطاعات الكبرى كالطاقة، والنقل، والبنية التحتية، مع ضمان الكفاءة والحوكمة بعيداً عن البيروقراطية التقليدية.
أكثر من ذلك يرى د. ريا أن الشركات القابضة تمثّل أداة انتقال من الاقتصاد العائلي المنغلق إلى اقتصاد مؤسساتي حديث، قائم على الشفافية والمساءلة، ومتسق مع متطلبات الحوكمة والتنمية المستدامة.
إعادة توجيه السياسات المصرفية نحو ما يُعرف بـ”التمويل التنموي الموجّه” ودعم القطاعات الحيوية وتطوير أدوات تمويلية غير تقليدية كتمويل الأسهم وصناديق الاستثمار التنموي والتمويل الجماعي
إصلاح محركات الدفع التنموي
لكن ثمة محور أساس آخر برأي الخبير د. ريا.. هو قانون المصارف، وتحريكه بحرفية من التقييد إلى التحفيز التنموي.. فهو يجزم بأن البيئة المصرفية تلعب دوراً جوهرياً في تنشيط الاستثمار أو تعطيله.
ورغم احتواء قانون المصارف السوري على بعض الآليات الحديثة، إلا أن الخبير ريا يرى أنه لا يزال عاجزاً عن توفير بنية تمويلية تخدم القطاعات الإنتاجية.
لذا يتطلب الأمر إعادة توجيه السياسات المصرفية نحو ما يُعرف بـ”التمويل التنموي الموجّه”، الذي يركز على دعم القطاعات الحيوية مثل: الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا، والطاقة. ويشمل ذلك تطوير أدوات تمويلية غير تقليدية كتمويل الأسهم، وصناديق الاستثمار التنموي، والتمويل الجماعي.
إلى جانب ذلك، يجب تحصين المصارف من التدخلات السياسية والأمنية، وتعزيز استقلاليتها، وتطوير آليات الرقابة الداخلية والخارجية وفقاً للمعايير الدولية فيما يتعلق بكفاية رأس المال، ونسب السيولة، والامتثال الضريبي، بما يسهم في بناء قطاع مالي متين وموثوق.
تكتّلات مرنة
أما بالنسبة إلى التكتلات المالية..وتعزيزها في سياق مرن نحو اقتصاد شبكي متكامل..فيعتبر الدكتور ريا أن التكتلات المالية من أبرز أدوات الحوكمة الاقتصادية في البيئات المعقدة والهشّة، وتمتاز ببنيتها الشبكية التي تتيح التعاون من دون إلغاء استقلالية الكيانات المشاركة.
ففي السياق السوري، تتعاظم الحاجة إلى تكتلات من هذا النوع لعدة أسباب جوهرية
تبدأ برأي الدكتور ريا، بتجاوز اختناقات البنية التحتية عبر بناء شبكات إنتاج وتوزيع مرنة.
وتعزيز القوة التفاوضية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ثم تسهيل الوصول إلى تمويل مشترك وتوفير ضمانات للتوسع.
إضافة إلى الانتقال من اقتصاد مبعثر إلى اقتصاد شبكي متكامل.
ويعتبر -محدثنا- التكتلات المالية حاملاً محتملاً لإعادة دمج سوريا في الاقتصاد الإقليمي والدولي، شرط أن تُدار ضمن بيئة قانونية مرنة، وتخضع لقواعد المنافسة العادلة، وتُحمى من الاحتكار والمحسوبية.
التجربة السورية أثبتت أن السيادة السياسية لا تكتمل من دون سيادة اقتصادية… وأن هذه الأخيرة لا تتحقق إلا من خلال بناء بيئة قانونية مستقرة.. ومؤسسات تحظى بثقة المجتمع والمستثمرين.. وقضاء اقتصادي متخصص ومستقل
سيادة اقتصاديّة
كل ما سبق يضعه د. ريا في اتجاه يؤدي إلى سيادة اقتصادية تعادل السيادة السياسية.. ويرى أن التجربة السورية، أثبتت أن السيادة السياسية لا تكتمل من دون سيادة اقتصادية، وأن هذه الأخيرة لا تتحقق إلا من خلال بناء بيئة قانونية مستقرة، ومؤسسات تحظى بثقة المجتمع والمستثمرين، وقضاء اقتصادي متخصص ومستقل.
فالإصلاح الاقتصادي الحقيقي لا يقوم على الخطابات التحفيزية، بل على وضوح القوانين، واستقرارها، وتكاملها مع الأهداف الوطنية الكبرى.
المرحلة القادمة ليست مجرّد لحظة تعافٍ، بل فرصة تاريخية لإعادة التأسيس… وسوريا في هذا السياق..أمام خيارين: إما إعادة إنتاج نموذج اقتصادي أثبت فشله.. أو الانتقال إلى نموذج إنتاجي يستند إلى مؤسسات مرنة، وقطاع مالي داعم وتكتلات تنظيمية قادرة على خلق الثروة وتحقيق القيمة المضافة
وبمسؤولية الخبير العارف يرى الدكتور سلمان ريا، أن المرحلة القادمة ليست مجرّد لحظة تعافٍ، بل فرصة تاريخية لإعادة التأسيس. وسوريا، في هذا السياق، أمام خيارين: إما إعادة إنتاج نموذج اقتصادي أثبت فشله، أو الانتقال إلى نموذج إنتاجي حديث، يستند إلى مؤسسات مرنة، وقطاع مالي داعم، وتكتلات تنظيمية قادرة على خلق الثروة وتحقيق القيمة المضافة.
ويختم حديثه: إن تحرير الاستثمار لا يعني فوضى السوق، بل تنظيمه ضمن إطار قانوني يضمن الحماية والمحاسبة والمنافسة العادلة. فقط من خلال هذا النهج، يمكن لسوريا أن تتحوّل من بلد يُرمّم ما دُمّر، إلى دولة تبني مستقبلاً معرفياً، وتؤسّس لدورها الفاعل في الاقتصاد العالمي.