الحرية_ بشرى سمير:
يجلس أبو محمود على كرسيه الصغير في ورشته المتواضعة، والتي امتلأت رفوفها بالأحذية من مختلف الأشكال والألوان والمقاسات، وكلها تحتاج إلى إصلاح وترميم، ويقول أبو محمود إن مهنة الإسكافي التي ورثها عن والده هي مهنة قديمة جداً، فقد ارتبطت بتاريخ البشرية منذ العصور القديمة، حيث كانت صناعة الأحذية يدوية وتتم من مواد مثل الجلد والخشب، وعبر التاريخ، كان الإسكافيون من أهم الحرفيين في المجتمعات نظراً للحاجة إلى صناعة وإصلاح الأحذية، إلا أن هذه الحرفة تراجعت مع تطور صناعة الأحذية الجاهزة والمنتجات الصناعية الرخيصة، لكنها لم تختفِ تماماً وما زالت موجودةً في الأسواق التقليدية والمناطق الشعبية.
الحاجة في ظل الظروف الاقتصادية
ازدهرت المهنة بشكل كبير خلال فترات الحصار والظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها البلاد خلال الحروب، حيث لم يكن شراء الأحذية الجديدة متاحاً للكثيرين، ما دفعهم للاعتماد على الإسكافي لإصلاح أحذيتهم القديمة، ويؤكد أبو محمود أن مهنة الإسكافي ليست مقتصرة على الفقراء، بل هي خدمة ضرورية لجميع الطبقات الاجتماعية في ظل غلاء الأسعار وصعوبة شراء أحذية جديدة باستمرار.
خبير اقتصادي: الترميم يتفوّق على التجديد… والمهنة تعود رغم تراجع هوس الموضة
ويضيف أن زبائنه من مختلف الطبقات، ويقوم بإصلاح الحذاء الذي يبلغ سعره 50 ألف ليرة، والحذاء الذي يتجاوز سعره 500 ألف ليرة، وهناك زبائن أثرياء يأتون إلى الورشة من أجل إعادة استخدام قطعهم القديمة وتوفير المال، ومع ذلك، لم ينفِ أبو محمود أن أهمية هذه المهنة تزداد في المناطق التي تعاني من الفقر، حيث يلجأ إليها الكثيرون كحل اقتصادي للحفاظ على أحذيتهم لأطول فترة ممكنة، ويوضح أن مهنة الإسكافي ليست مربحة بالمعنى التقليدي للثراء، لكنها يمكن أن توفر رزقاً ثابتاً وتزدهر في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، كالغلاء وارتفاع أسعار المنتجات الجديدة، حيث يلجأ الناس إلى إصلاح ما لديهم بدلاً من الشراء، ويعتمد ربح المهنة بشكل كبير على المهارة اليدوية، والقدرة على تلبية طلبات الزبائن في صناعة أو إصلاح المنتجات الجلدية والأحذية والحقائب، بالإضافة إلى الصبر والدقة في العمل.
رأي اقتصادي
عصام البرغلي، تاجر أحذية وخبير اقتصادي، يرى أنه في ظل ارتفاع أسعار الأحذية الجديدة، يوفر إصلاحها بديلاً فاعلاً من حيث التكلفة للعديد من الأسر، وعلى الرغم من تحديات المنافسة مع الأحذية الصناعية الجديدة، فإن الحاجة المستمرة لتصليح الأحذية تضمن بقاء المهنة واستمراريتها، وأضاف البرغلي إن مهنة الإسكافي تقدم خدمة أساسية للأسر ذات الدخل المحدود والمتوسط، حيث يسهم إصلاح الأحذية في سد بعض الثغرات الاقتصادية لديهم.
الحد من النفايات
ومن خلال إعادة تدوير القطع القديمة، يسهم الإسكافي في الاستدامة وتقليل الهدر الناتج عن التخلص من الأحذية التالفة، ولفت البرغلي إلى أن التطور التكنولوجي والآلات الحديثة أدت إلى تقليص دور المهنة اليدوية في صناعة الأحذية عالمياً، ما قلل من عدد الحرفيين، لكن الحرفي الماهر الذي يمتلك لمسة إبداعية وقدرة على تطوير التصاميم يلبي رغبات الزبائن بشكل أفضل، ما يعزز ربحيته، وأشار إلى أن انتشار المنتجات المستوردة، والمنافسة مع الأحذية المصنعة آلياً والمستوردة بأسعار رخيصة، أدى إلى تراجع الطلب على صناعة الإسكافي نوعاً ما.
تغيّر ثقافة المستهلك
كما يميل الكثير من الناس اليوم إلى شراء أحذية جديدة بدلاً من إصلاحها، حتى لو كان الإصلاح أرخص، وذلك لرغبتهم في مواكبة الموضة والحصول على مظهر جديد، ما أدى إلى انخفاض الطلب، وتالياً تراجع كبير في عدد المهنيين المتخصصين بهذه الحرفة، حيث ينخرط فيها غالباً كبار السن وتواجه خطر الاندثار، لكن مع ذلك، يظل هناك زبائن يقدّرون الجودة العالية للأحذية التقليدية المصنوعة يدوياً ويفضلون إصلاحها، وهم يدركون متانتها مقارنة بالمنتجات الرخيصة.
أهميتها كحرفة تقليدية
لا تزال المهنة تمثل تراثاً يدوياً أصيلاً يستحق الحفاظ عليه، وتعمل بعض الفعاليات على إبرازها كجزء من التراث الثقافي، ولا صحة لمقولة “الإسكافي حافي” أو “باب النجار مخلَّع”، والتي تعني أن صاحب المهنة قد يتقاعس عن توفير خدمات لمهنته الخاصة أو لأفراد عائلته بسبب انشغاله التام بتقديم هذه الخدمات لعملائه الآخرين، وهي تعبّر عن ظاهرة إهمال المحترفين لأمورهم الشخصية في مقابل عملهم الاحترافي.