الاقتصاد الانعكاسي.. ومستقبل التّفاعل الاقتصادي في عالمٍ متحوِّل

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية –  نسيم عمران:

مع تسارع التّحوّلات العالميّة، وازدياد تعقيد الشّبكات الاقتصاديّة، بدأت ملامح فلسفة اقتصاديّة جديدة بالظّهور ومن الممكن تسميتها بـ”الاقتصاد الانعكاسي” وهو مفهوم غير مطروق بعد، يقوم على مبدأ أنّ الأنظمة الاقتصاديّة لم تعُد تستجيب فقط للقرارات والسّياسات، بل تعكس ردود أفعالها على صانعي السّياسات أنفسهم، في حلقة تغذية راجعة ديناميكيّة ومعقّدة.

ما هو الاقتصاد الانعكاسي؟

في الاقتصاد التّقليدي، تقوم الحكومات بوضع سياسات ماليّة ونقديّة، ثمّ تتابع أثر هذه السّياسات على السّوق، وتعدّلها لاحقًا، أمّا في الاقتصاد الانعكاسي فإنّ الأسواق نفسها أصبحت تُبادر بالتّأثير على صانع القرار قبل أن يتّخذ قراره من خلال ما يُعرف بــ “الاستشعار الاقتصادي العكسي”.
مثال ذلك: حين تُعلن جهة كبرى نيّتها في رفع الفائدة تقوم الأسواق مسبقاً بتغيير سلوكها، ما يؤدّي أحياناً إلى نتائج تعاكس القرار قبل صدوره، ما يجعل البنك المركزي مضطرّاً لتعديله أو تأجيله، ليس وفق البيانات، بل وفق “تفاعل السّوق مع نيّات القرار”.

بين المؤامرة والتطوّر الطبيعي

الاقتصاد الانعكاسي ليس خرافة، بل هو نتاج طبيعي لتطوّر الذّكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضّخمة، والأسواق عالية الحساسيّة، فاليوم تصدر خوارزميّات في بورصات عالميّة قرارات بيع أو شراء بناءً على إشارات نفسيّة أو سياسيّة، لا على أساس الأرقام فقط، وهذه الأنظمة بدورها ترسل إشارات جديدة إلى صانع القرار وكأنّ الاقتصاد يعكس ذاته، ويراقب مرآته قبل أن يتحرّك.
مخاطر الاقتصاد الانعكاسي
ثمة مخاطر للاقتصاد الانعكاسي.. أولها، ضياع السّيادة الاقتصاديّة: حين تُصبح ردود أفعال السّوق هي من يحدّد القرارات الحكوميّة، قد تفقد الدّولة دورها السّيادي في رسم الاقتصاد.
وثانيها الأزمات المُصنّعة، إذ قد تخلق الأسواق اضطرابات مؤقّتة لإجبار الحكومات على اتّخاذ قرارات معيّنة.
وثالثها.. تآكُل مفهوم “المؤشّرات التّقليديّة”، كالنّاتج المحلّي والبطالة والتّضخّم، لأنّ الانعكاسات الآنيّة تسبق الأرقام الفعليّة.

ضبط

السؤال الآن من يستطيع ضبط هذا الاقتصاد..؟ إن لم يتمّ الاعتراف بالاقتصاد الانعكاسي كمجالٍ مستقلّ، ستظلّ الحكومات ضحيّةً لردود أفعالٍ لا تفهمها والحلّ هو في تطوير أدوات اقتصاديّة تنبّؤية معكوسة، تستخدم الذّكاء الاصطناعي لا فقط للتّنبّؤ، بل لفهم “ردّ الفعل على التّنبّؤ”، وبالتالي استباق الانعكاس قبل حدوثه.

تحوّل دور المواطن

في هذا الاقتصاد الجديد، لم يعُد المواطن مجرّد مستهلكٍ أو دافع ضرائب، بل أصبح عنصراً فاعلاً ومؤثّراً في تشكيل السّياسات من خلال سلوكه اليومي، ووجوده الرّقمي، وردّ فعله في الأسواق.
فالمستخدم العادي اليوم يستطيع أن يُحدث اضطراباً في شركةٍ كبرى بمجرد حملة “مقاطعة” على وسائل التّواصل.
وفي الاقتصاد الانعكاسي، البيانات الشّخصيّة ليست مجرّد معلومات، بل أدوات ضغط وتحليل وتوقّع وردّ فعل.
كما أن القرار السّياسي لم يعُد يتحكّم بالسّوق فقط، بل أصبح مراقبًا له خشية انعكاساته المُباشرة.

متضررون

قد تكون الدّول النّامية أوّل المتضرّرين من هذا النّمط الاقتصادي إن لم تدركه مبكّراً، لأن أدوات التّحليل المعكوس غالباّ ما تتركّز بيد الشّركات الكُبرى أو الدّول ذات القدرات الرّقميّة.
إضافة إلى ضعف البُنى التحتيّة الرّقميّة يجعل الحكومات تتّخذ قرارات بطيئة في زمن ردّ الفعل السريع.
ثم التقلّب في العملات، أو التضخّم، أو الاستثمار الأجنبي، أصبح محكوماً بانعكاساتٍ سريعةٍ لسلوك السّوق وليس فقط لأسس الاقتصاد المحلي.
لكنّ الفرصة أيضًا قائمة حيث يمكن للدّول النّامية أن تطوّر “مراكز إنذارٍ اقتصادي مبكّر”، لرصد الانعكاسات قبل تضخّمها، كما ويمكنها الاستثمار في الذّكاء الاصطناعي والتّحليل السّلوكي ما يجعل بعض هذه الدّول تقفز فوق مراحل اقتصاديّة كلاسيكيّة.

دعوة إلى الاعتراف الرسمي

آن الأوان أن تُنشئ الجامعات أقساماً تبحث في الاقتصاد الانعكاسي، وأن تبدأ المؤسّسات النّقديّة بتطوير مؤشّراتٍ جديدةٍ لا تعتمد فقط على المعايير التقليديّة، بل تشتمل مؤشّر “ردّة الفعل النّفسيّة للمستثمر”، ومؤشّر “التّقلّب الانعكاسي للسياسات”، ومؤشّر “الزّمن بين القرار وتحوّله إلى ردّة فعل عكسيّة”

نحن داخل المرآة!

نحن نعيش في اقتصادٍ ينظر إلى نفسه في مرآةٍ دائمة فالقرارات لا تصدر وحدها، بل تصدر مشفوعةً بما قد تعكسه الأسواق عنها، فلم يعُد السؤال فقط: “ما القرار الصحيح؟” بل أصبح: “كيف سينعكس هذا القرار على السّوق؟ وكيف سيكون انعكاسه على صنّاع القرار؟” وهذا ما يجعل الاقتصاد الانعكاسي ليس فقط فرعاً جديداً من علم الاقتصاد، بل أداة لفهم الإنسان الحديث في عصرٍ رقميٍّ معقّد.

Leave a Comment
آخر الأخبار
"صحة دير الزور " تضع قسم النسائية بمشفى الميادين الوطني في الخدمة  وزارة الاتصالات: انقطاعات الخدمات في السويداء ناتجة عن صعوبات تقنية ولوجستية واتخذنا خطوات لاستعادته... خطة شاملة لتحسين واقع الخدمات  على كورنيش مدينة طرطوس وقفة احتجاجية لفرع اتحاد الكتاب العرب  بطرطوس ضد جرائم الكيان الصّهيوني والاعتداء على الأراضي السّور... السويداء في ثاني أيام الاتفاق.. «القلة» التي تريد إبعاد الدولة وتفجير السلم الأهلي.. وليحذر السوريين... بعد وصول أزمة السويداء إلى خواتيمها.. ما أهداف ومسوغات التدخل الإسرائيلي ‏السافر؟!‏ "التربية" تناقش تطوير التعليم المهني بالتعاون مع الوكالة الألمانية (GIZ) رغم فوائده الصحية والخطط لزيادة الإنتاج.. المواطن السوري عاجز عن شراء السمك! دورة تدريبية جديدة في تشرين أول القادم.. ختام دورة المدربين في ألعاب القوى أخيراً حل جذري لمشكلة أرهقت وأربكت.. خبراء متفائلون بتعزيز سوق يحتضن أكبر كتلة تداول نقدي في سوريا