الاقتصاد السوري بين رفع العقوبات والانفتاح الدولي.. ملامح مرحلة جديدة

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية – أمين سليم الدريوسي

تشهد سوريا منذ مطلع تشرين الأول الجاري تحولات اقتصادية وسياسية متسارعة، تعكس بداية مرحلة جديدة من الانفتاح الدولي بعد سنوات طويلة من العقوبات والحصار التي كبّلت الاقتصاد وأعاقت مسارات التنمية، فمع الإعلان الرسمي عن بدء رفع تدريجي للعقوبات، تزامنت هذه الخطوة مع نقاشات دولية في صندوق النقد والبنك الدولي حول مستقبل الاقتصاد السوري، وهو ما يشير إلى عودة الاهتمام العالمي بملف سوريا الاقتصادي بعد غياب طويل.
وفي الداخل، جاءت هذه التطورات مترافقة مع انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وما رافقها من نقاشات حول الإصلاحات الاقتصادية والمالية، لتؤكد أن البلاد تدخل مرحلة جديدة من الاقتصاد السياسي، حيث لم يعد بالإمكان فصل القرارات الاقتصادية عن التحولات السياسية، فالمشهد الراهن يوحي بأن سوريا تتحرك نحو إعادة صياغة موقعها في النظامين الإقليمي والدولي، عبر الجمع بين الاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي، بما يمهّد الطريق لمرحلة مختلفة عنوانها الأبرز: «إعادة البناء والانخراط في الاقتصاد العالمي».

أولاً: رفع تدريجي للعقوبات وبداية سياسة مالية جديدة

في العاشر من هذا الشهر، أعلن وزير المالية السوري محمد يسر برنية أن البلاد دخلت «المراحل الأخيرة من رفع العقوبات الاقتصادية» بعد سنوات طويلة من الحصار، مشيراً إلى أن إلغاء قانون قيصر بات قريباً عقب تصويت مجلس الشيوخ الأميركي على مادة في موازنة وزارة الدفاع تتضمن إلغاءه، هذا التطور لم يُقدَّم فقط كإنجاز اقتصادي، بل وُصف من الوزير بأنه «نجاح للدبلوماسية السورية»، في إشارة واضحة إلى أن المسار السياسي كان هو المدخل الأساسي لتغيير البيئة الاقتصادية.
رفع العقوبات لا يعني مجرد عودة التعاملات المالية، بل يشير إلى إعادة اندماج سوريا وإدماجها في النظام المالي العالمي بعد عزلة استمرت أكثر من عقد، فالتواصل الذي بدأ مع مؤسسات مالية كبرى مثل «ماستر كارد» وبنوك أوروبية يعكس استعداداً دولياً للتعامل مع دمشق، وهو ما يفتح الباب أمام تدفقات استثمارية محتملة في قطاعات البنية التحتية والطاقة والخدمات المصرفية.
والأهمية الحقيقية تكمن في أن رفع العقوبات يغيّر قواعد اللعبة داخلياً وخارجياً.. فداخلياً، يمنح الحكومة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتحسين قيمة العملة الوطنية وتخفيف الأعباء المعيشية.. أما خارجياً، يرسل إشارة إلى أن المجتمع الدولي بات مستعداً للتعامل مع سوريا كطرف فاعل في الاقتصاد الإقليمي.
لكن هذا التحول يضع دمشق أمام تحديات جديدة: فعودة الانفتاح المالي تعني الحاجة إلى إصلاحات هيكلية في النظام المصرفي، تعزيز الشفافية، وضبط السياسات النقدية بما يتماشى مع المعايير الدولية، أي أن رفع العقوبات ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسار طويل يتطلب إدارة دقيقة للتوازن بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على السيادة الوطنية.

ثانياً: النقاشات الدولية في صندوق النقد والبنك الدولي

وفي الثالث عشر من تشرين الأول الجاري، خُصصت جلسة ضمن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدولي في واشنطن لمناقشة مستقبل الاقتصاد السوري تحت عنوان: «إعادة بناء سوريا.. مسار نحو الاستقرار والازدهار»، هذه الجلسة ليست حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل تحمل إشارات عملية إلى بداية إعادة إدماج الاقتصاد السوري في قنوات التمويل والمعايير العالمية.
وحدّدت الجلسة ثلاثة محاور تقنية تُعد بمثابة شروط للثقة.. إعادة هيكلة البنك المركزي وأطر الحوكمة الداخلية، تحديث أدوات السياسة النقدية للتحكم بالكتلة النقدية والتضخم، وتعزيز الشفافية المالية عبر تحسين جودة البيانات ونشرها المنتظم، هذه المحاور تقود نحو هدف واحد: تحويل البيئة المالية السورية من وضع إدارة الأزمات إلى وضع إدارة النمو، بما يسمح بقراءة المخاطر الائتمانية وتحديد كلف التمويل وإطلاق قنوات استثمارية منظّمة.
إذاً، إدراج سوريا على جدول أعمال الاجتماعات السنوية يرسل إشارة مزدوجة، للمجتمع الدولي الذي بات يتعامل مع الملف السوري باعتباره جزءاً من الاستقرار الإقليمي، وفي المقابل تُمنح دمشق فرصة لالتقاط لحظة «عودة الثقة» بشرط تحويلها إلى تغييرات مؤسسية داخلية.

ثالثاً: الانعكاسات السياسية الداخلية

تزامنت هذه التطورات الاقتصادية مع انتخابات مجلس الشعب التي جرت في الخامس من تشرين الأول، والتي اعتُبرت محطة سياسية مهمة في مسار التحول السوري الحديث، خصوصاً أنها الأولى بعد بدء مسار رفع العقوبات والانفتاح الدولي.
هذا التوازي بين الإصلاح الاقتصادي والتحرك السياسي يعكس إدراكاً متزايداً لدى صانعي القرار بأن الاقتصاد والسياسة في سوريا باتا مترابطين بشكل وثيق، فنجاح أي خطة اقتصادية يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً يضمن الاستقرار، إلى جانب توافق خارجي يفتح الأبواب أمام الاستثمارات والمساعدات، وبذلك، تصبح الانتخابات الأخيرة ليست مجرد استحقاق دستوري، بل جزءاً من إعادة صياغة العقد السياسي-الاقتصادي الذي تسعى سوريا لترسيخه في المرحلة المقبلة.

نحو أفق جديد للاقتصاد السياسي السوري

وما بين تصريحات وزير المالية حول رفع العقوبات، والنقاشات الدولية في صندوق النقد والبنك الدولي، والتحولات السياسية الداخلية التي رافقت انتخابات مجلس الشعب، تبدو سوريا في الفترة ما بين 10 و13 تشرين الأول أمام مرحلة انتقالية فارقة، إنها مرحلة تتقاطع فيها الدبلوماسية مع الاقتصاد، وتلتقي فيها الإصلاحات الداخلية مع الانفتاح الدولي، بما يمهّد الطريق نحو استقرار سياسي واقتصادي أوسع.
هذه المرحلة ليست مجرد محطة عابرة، بل بداية مسار طويل يتطلب إدارة دقيقة للتوازن بين الداخل والخارج، وبين متطلبات التنمية وحاجات الاستقرار، وإذا ما نجحت دمشق في تحويل هذه الفرصة إلى برنامج إصلاحي متكامل، فإن السنوات المقبلة قد تشهد إعادة رسم ملامح سوريا اقتصادياً وسياسياً، لتتحول من دولة محاصرة إلى فاعل إقليمي يعيد صياغة موقعه في الشرق الأوسط.

Leave a Comment
آخر الأخبار