الحرية- وديع فايز الشماس :
في خضم ما تمر به منطقتنا من تحولات سياسية واجتماعية، تزداد الحاجة إلى إعادة الاعتبار لقيمة الانتماء الوطني كمرجعية جامعة تتجاوز حدود التشتت والانقسامات الضيقة.
فالانتماء للوطن ليس مجرد مشاعر عابرة، بل هو موقف راسخ وسلوك عملي يعكس الوعي بأن الوطن هو الإطار الجامع للهوية، والمكان الذي يحتضن الجميع على اختلافهم.
إن ما يُضعف جسد الدولة ويشتت طاقاتها ليس دائماً التحديات الخارجية، بل في كثير من الأحيان الولاءات الجزئية التي تُقدَّم على الولاء للوطن: الولاءات الحزبية، أو الطائفية، أو العشائرية، التي تحصر الانتماء في دائرة ضيقة وتحجب الرؤية عن المصلحة الوطنية العليا.
لقد أثبتت التجارب في كثير من البلدان أن الدولة الحديثة لا تُبنى على أساس المحاصصة ولا على توازن الولاءات، بل تُبنى على قاعدة المواطنة المتساوية والانتماء الصادق للأرض والهوية الجامعة.
فحين يُقدّم المواطن مصلحة حزبه على مصلحة وطنه، أو يرى في طائفته المرجعية العليا بدلاً من القانون، تتحوّل الدولة إلى ساحة تنافس على النفوذ لا مشروعاً مشتركاً لبناء المستقبل.
الانتماء الحقيقي للوطن يعني الإيمان بأن الوطن فوق الجميع، وأن الاختلاف في الرأي أو الانتماء الفكري لا ينبغي له أن يتحوّل إلى خصومة أو قطيعة، بل إلى تنوع إيجابي في إطار وحدة وطنية صلبة.
إن بناء دولة قوية متماسكة يتطلب أولاً ترسيخ الانتماء الوطني كثقافة راسخة في النفوس، تغذّيها الأسرة، وتدعمها المدرسة، وتتبناها مؤسسات الدولة، وتكرّسها السياسات الإعلامية والتعليمية.
كما يتطلب عدالة شاملة تُشعر كل فرد أنه متساوٍ في الحقوق والفرص، وأن انتماءه للوطن ليس فقط واجباً بل مكسب أيضاً.
ولعل من أبرز التحديات التي نواجهها اليوم هي الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة: الدولة كضامن للحقوق والكرامة، والمواطن كشريك مسؤول في البناء والتطوير.
وعندها فقط تصبح الدولة ملكاً للجميع، ويصبح الدفاع عنها وتطويرها، والحفاظ على استقرارها، مسؤولية مشتركة.
في الختام، لا يمكن أن تتحقق دولة حديثة من دون أن يكون الانتماء للوطن هو البوصلة الوحيدة التي يهتدي بها المواطن في مواقفه، وتبنيها الدولة في سياساتها.
فالوطن الذي نختلف في داخله بوعي وضمن إطار جامع، أقوى بكثير من وطن يتآكله صراع الولاءات الضيقة التي لا تُنتج إلا الضعف والانقسام.
الانتماء للوطن.. البوصلة الحقيقية لبناء الدولة الحديثة

Leave a Comment
Leave a Comment