التفاخر الرقمي.. حين يتحول الاستهلاك إلى سلعة ويعمّق الفجوة الاجتماعية

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – بشرى سمير:

في عالم تتحكم فيه مواقع التواصل بجزء كبير من تفاعلاتنا اليومية، تحولت منصات مثل «إنستغرام»، «تيك توك»، و«فيسبوك» إلى ساحات مفتوحة لاستعراض المظاهر المادية، ما كان في الماضي حكراً على النخبة، أصبح اليوم عروضاً يومية يستهلكها الملايين: من موائد الطعام الفاخرة إلى الأزياء والسيارات، وهكذا انتقل التباهي بالمقتنيات من سلوك فردي محدود التأثير إلى ظاهرة جماعية تعيد تشكيل القيم الاجتماعية وتعمّق الفجوات الطبقية بشكل مرئي ومؤلم.

من المأكولات إلى السيارات الفارهة

الاختصاصية الاجتماعية سوسن السهلي أوضحت أن ظاهرة التفاخر عبر وسائل التواصل تهدف أساساً إلى جذب الإعجاب والتقدير وحب الظهور، وتتخذ أشكالاً متعددة: استعراض وجبات الطعام في مطاعم فاخرة، التباهي بالملابس والإكسسوارات من ماركات عالمية، ونشر صور السيارات الفارهة في أماكن مميزة.

وأضافت أن هذه المنصات تحولت إلى «معارض دائمة» للمظاهر المادية، حيث يتبارى المستخدمون في عرض آخر مشترياتهم، غالباً بهدف إظهار التفوق الاجتماعي وجعل الآخرين يشعرون بأنهم أقل حظاً أو نجاحاً.

ولفتت السهلي إلى أن علامات تجارية مثل «لامبورغيني» و«بنتلي» تتبنى استراتيجيات رقمية تعزز هذه الثقافة، فـ «لامبورغيني» مثلاً ترفض الإعلانات التقليدية وتكتفي بعرض محتوى فاخر عبر «تيك توك» يظهر سياراتها في أماكن استثنائية، لتقديم صورة عن حياة الرفاهية المرتبطة بمنتجاتها.

جذور نفسية عميقة

ترى السهلي أن هذه الظواهر تعكس جذوراً نفسية عميقة، إذ يلجأ بعض الأثرياء وأصحاب المال إلى التباهي المادي كوسيلة لاستعراض ثروتهم ورسم حدود طبقية، نتيجة افتقاد الحب أو رغبة في الاستحسان، أو بسبب الغطرسة والحسد الناتج عن مقارنة النفس بالآخرين، كما يلجأ بعض الشباب إلى امتلاك أشياء نادرة أو باهظة الثمن سعياً للتفرد أو لإخفاء انتمائهم لطبقة متوسطة.

الفجوة الرقمية

في خضم هذا الاستعراض الرقمي، يغيب تماماً الاعتبار لمشاعر الفقراء والمهمشين، ما يراه البعض مشاركة بريئة للحظات سعادة، قد يكون بالنسبة لمن يعاني لتأمين لقمة العيش مصدر ألم وإحساس بالظلم والعزلة، وتشير السهلي إلى أن هذه المظاهر تولّد في نفوس مشاهديها النقمة والشعور بسوء الحظ، وخاصة أن الكثير من مقاطع البذخ تكون مدعومة من فنادق ومطاعم لأغراض دعائية، أو مصوّرة في استوديوهات، بينما تُعرض على أنها نمط حياة دائم للمؤثرين.

المخدر الإلكتروني

تحذر السهلي من هذا «المخدر الإلكتروني» الذي يقدم صورة وردية مخالفة للواقع، ويحرض الشباب على الانخراط في تجارب استهلاكية وهمية قد تنتهي بهم إلى الإحباط والدَين، فالبعض يلجأ للاستدانة لتلبية متطلبات الاستهلاك التفاخري، ما يؤدي إلى ضغوط مالية، مشكلات أسرية، وحتى انهيارات اجتماعية. وخلال المواسم مثل الأعياد، يتحول الضغط لمجاراة مظاهر البذخ المعروضة إلى عبء مالي ثقيل على الأسر.

نحو وعي جديد

ودعت السهلي إلى تعزيز الوعي المالي عبر برامج توعوية حول التخطيط وإدارة الأموال، وتربية الأبناء على القيم الحقيقية، مع دور للأسرة والمؤسسات التربوية في تعزيز التواضع وتقدير الإنجازات الذاتية. كما شددت على أهمية تشجيع الاستهلاك المستدام والشراء حسب الحاجة، وتنظيم الإعلانات التي تروج للاستهلاك المفرط.

مفهوم القيمة والهوية

وخلصت السهلي إلى أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد موضة عابرة، بل تحول في مفهوم القيمة والهوية، فقد نجحت وسائل التواصل، مدعومة بخوارزميات تروّج للمحتوى الاستفزازي وآلة إعلانية ضخمة، في تحويل السعادة والنجاح إلى سلع مرئية قابلة للقياس بعدد الإعجابات والتعليقات، والمخرج الحقيقي يبدأ بإدراك أن الثراء لا يقاس بالمقتنيات، وأن السعادة التي تُشترى بالدَين ثمنها باهظ، فبناء مجتمع متماسك يبدأ عندما نرفع أعيننا عن شاشاتنا لنرى من حولنا حقاً، ونستخدم أدوات الاتصال لسد الفجوات لا لتعميقها.

Leave a Comment
آخر الأخبار