الحرية – ميسون شباني:
يمثل معرض “تجليات الحرف العربي” في صالة “الأرت هاوس” خطوة هامة في إعادة تأويل وتفسير الحرف العربي بشكل معاصر، حيث يعيد الفنانون المشاركون تقديم الحرف العربي في أبعاد فنية جديدة تعكس التفاعل بين التقليد والحداثة، وتفتح أبواباً جديدة لقراءاته البصرية والفلسفية، لا يقتصر المعرض على مجرد توظيف الحرف كأداة كتابية، بل يُحول الحرف العربي إلى لغة بصرية تحمل رسائل متعددة، مستلهمة من التراث لكنها تتناغم مع التطورات الفنية الحديثة. وبذلك، يصبح الحرف العربي عنصراً حياً حاملاً لعمق تاريخي وثقافي، يتم استكشافه وتعميقه من خلال أساليب فنية متنوعة ومبتكرة.
*الحرف العربي كذاكرة جماعية
عبر أعمال الفنان التشكيلي أحمد الياس التي تستلهم التراث السوري العريق، يقدم الحرف العربي في سياق يتجاوز الحدود الشكلية. حيث يتداخل الحرف مع الرموز المسمارية والنبطية، ما يعكس مدى عمق ارتباط الحروف بالذاكرة الجمعية للإنسان، استخدامه للألوان الباردة، مثل الأخضر، يعكس حزنه على ما آل إليه هذا التراث نتيجة الصراعات السياسية والحروب، ويعبّر تفاعل الحرف مع الألوان مع ما وراءه من معان تاريخية، فالحرف العربي حسب رأيه ناقل لآلام الشعوب، ويحمل عناصر من الذاكرة الجماعية التي تُمثل ذاكرة المكان والتاريخ.
لكن وجوده في هذه الأعمال لا يتوقف عند كونه مجرد أداة للكتابة، بل يتحول إلى عنصر مرن يعكس الحزن والدمار، بينما في لوحة استثنائية، يظهر استخدام اللون الحار بشكل غير مألوف، ما يعكس توتراً داخلياً، ليصير الحرف في تلك اللوحة رمزاً للمحاولة المستمرة لاستعادة الهوية الثقافية المفقودة، وكأنه نبض من جديد وسط الخراب.
*إيقاع الحروف وتحررها
ويتناول الدكتور محمد غنوم في لوحاته الحرف العربي ضمن فضاءات هندسية منظمة، في عمله الأكريليكي، لكنه يُحدث تحولاً كبيراً في فهم الحرف بتركيبه داخل أنماط رياضية وهندسية، في لوحاته، تُظهر الحروف وكأنها محكومة بنظام مضبوط الإيقاع في بداية الأمر، لتأخذ أشكالًا حرة ومباغتة في لوحة ثانية، ما يعكس فكرة تطور الحرف العربي عبر الزمن، من شكله التقليدي المحدد إلى انفتاحه على حرية الحركة والتعبير.
الغريب والمثير في أعمال غنوم هو تنقل الحروف كما لو كانت نغمات موسيقية، هذه الموسيقى المرئية تنشأ من تفاعل الحروف مع الألوان، ما يخلق نوعاً من التناغم بين الشكل والمضمون، هذا التشبيه بين الحرف والموسيقى يعكس فلسفة في كيفية تداخل الفن البصري مع الإحساس السمعي، لتصبح اللوحة بذلك عرضاً ديناميكياً لا يقتصر على تجميد المعنى البصري بل يُحاول خلق علاقة بين الفضاء المحيط بالحرف وإيقاعه في الزمن.
* تحوّل ديناميكي مستمر
وتحضر لوحات الفنان الراحل نذير نصر الله في المعرض بمثابة حضور مهيمن، ونستعيد من خلال فضاء اللوحة رؤية مغايرة للخط العربي التقليدي، ففي أعماله، يتحول الحرف العربي إلى حركة موسيقية حية، حيث لا يظل الحرف ثابتاً أو جامداً بل يتحرر ويأخذ أشكالاً تتناغم مع الإيقاع الحركي للفضاء التشكيلي.
يمكن تفسير أعمال نصر الله على أنها محاولات لتفكيك العلاقة التقليدية بين الكتابة والتفسير البصري، فالحرف في لوحاته، لا يقتصر على كونه رمزاً بصرياً لتوصيل الكلمات، بل هو دلالة حية تُمثل التغيير المستمر، هذا النوع من الحرف العربي ليس مجرد شكل ثابت، بل هو جزء من حركة لا متناهية، ما يعكس الحياة والوجود كحركة دائمة في الكون.
* الحرف الكوفي وتجاوز الشكل التقليدي..
يعيد الفنان أحمد كمال في أعماله التجريدية، صياغة الحرف العربي بعيداً عن المظهر الظاهري المباشر، مستفيداً من تقنيات الأكريليك والكولاج، و يعتمد في أعماله على الحرف الكوفي المصحفي، وهو نوع من الخطوط التي تحمل تاريخاً عميقًا وارتباطاً بالمقدس، ومع ذلك، يختار كمال استخدام الألوان الخريفية، التي تنقل نوعًا من الحنين إلى الماضي، ما يُضفي على اللوحات حالة من الوجدان الكئيب الذي ينعكس على العلاقة بين الحرف والمكان والزمان.
هذا التجريد الزمني يعكس الارتباط العاطفي والتاريخي مع الحرف العربي الذي يمثل عنصرًا حيوياً في الذاكرة الثقافية، معبرًا عن حنين لا ينفصل عن الأبعاد الروحية والجمالية للأشكال الحرفية.
* تكسير الحواجز الجمالية
أما الفنان خلدون أحمد فيُقدم الحرف العربي بأسلوب حُر تماماً، حيث يُظهر الحروف ككائنات حية تتداخل مع الألوان بحرية كاملة. لا تلتزم حروفه بالقواعد التقليدية التي طالما حدّدت شكل الخط العربي، بل يتم تكسير هذه القواعد لتتحرك الحروف في فضاء تشكيلي مفتوح، كما لو كانت تسير وفق إيقاع خاص بها. في هذه الأعمال، يُحتفل بالحرف العربي كأداة جمالية بصرية يمكن أن تكون جزءًا من رقص لوني مستمر.
هذه الحرية الحركية تحيل إلى فكرة التفرد في العمل الفني، حيث لا تعود الحروف مجرد جزء من تركيبة لغوية أو كتابية، بل تصبح كائنات بصرية تَختبر أبعادًا حركية وتجريدية جديدة.
*بعد روحي وفلسفي
فيما اختارت ريم قبطان تقديم نظرة روحية صوفية في أعمالها، حيث مازجت الحروف مع الفضاء الكوني والزمني، وتتجاوز أعمالها القراءة الظاهرة للحرف العربي لتكشف عن بُعد فلسفي وروحي عميق، الحرف هنا ليس مجرد خط، بل هو نقطة محورية في الكون تتداخل مع حركة الزمان والمكان، يعكس هذا التصوير علاقة الحرف بالروحانيات، وكيف يمكن للكلمات أن تعبر عن فلسفة الوجود وتنطوي على أبعاد وجودية تتجاوز المادة من خلال دمج الحروف مع الكون، يتم تحويل كل حرف إلى كيان له بعد كوني وروحي، ما يعكس اعتقاداً عميقاً بأن كل حرف يحمل في طياته معاني كونية وأسطورية.
*استمرارية الإبداع وتجدد الهوية..
أكدت رانيا عبيد، مديرة المعرض أن تنوع الأساليب الفنية التي تم عرضها يعكس قوة الحرف العربي وقدرته على التكيف مع العصر الحديث من خلال أساليب مبتكرة ومعاصرة. وأضافت إن المعرض قدم نموذجاً فنياً فريداً لإظهار كيفية يمكن دمج الخبرات القديمة والجديدة في الخط العربي بطريقة إبداعية، مع الحفاظ على أصالته وجماله.
وأشارت إلى أن الحرف العربي ليس مجرد أداة للتواصل أو كتابة الكلمات، بل هو عنصر فني حي يعكس روح ثقافة غنية بالتاريخ والجمال. التنوع في الأساليب والموضوعات، من الحروف المتجردة إلى الموسيقى المرئية والروحانية، يفتح أفقاً جديداً للجمهور للتفاعل مع الحرف العربي، كفن قائم بذاته يعبر عن الهوية الثقافية والأحاسيس الإنسانية.
وأشارت إلى أن المعرض يسلط الضوء على أهمية الحفاظ على التراث في الفن المعاصر، وفي الوقت نفسه يبرز الإبداع الفني الذي يجعل من الحرف العربي نقطة اتصال بين الماضي والحاضر، كما أثنت على حضور الفنان الراحل نذير نصر الله في المعرض، مشيرة إلى أن أعماله التي تمزج بين الخط العربي والموسيقى قد أضافت عمقاً تاريخياً وأدبياً للمشروع، وجعلت المعرض محطة لتفكير جديد في الخط العربي كحامل للثقافة والإبداع.
ولفتت إلى أن المعرض هو دعوة للاحتفاء بالخط العربي كفن حيّ ومتجدد يمكن أن يعبر عن الزمن والمكان في تناغم مع العصر، ويُظهر كيف أن الفن المعاصر قادر على منح الحرف العربي أبعاداً جديدة وغنية تتجاوز حدود الكتابة.