الحرية ـ ثناء عليان:
لم تكن زيارة الوفد الروسي برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك إلى دمشق حدثاُ بروتوكولياً عابراً، بل بدت وكأنها مؤشر على بداية مرحلة جديدة في علاقة موسكو مع سوريا، هذه الزيارة جاءت في ظرف دقيق، تحاول فيه سوريا إعادة بناء مؤسساتها بعد سقوط النظام السابق، وروسيا تسعى لإعادة تثبيت موقعها في المنطقة بوسائل مختلفة عن السنوات الماضية، هذا ما أكد الخبير الاقتصادي علي إسماعيل- نائب رئيس مجلس النهضة السوري.
ملف الطاقة
وبيّن إسماعيل الأبعاد السورية لهذه الزيارة وفي مقدمتها الاقتصاد، إذ لم يكن من المصادفة أن يترأس نوفاك، المسؤول عن ملف الطاقة في الحكومة الروسية والوفد المرافق له “الكهرباء والوقود”، هما العصب الحيوي لأي اقتصاد، وفي سوريا اليوم يشكّلان أيضاً عنواناً لأزمة يومية يعيشها المواطن، هنا تراهن الحكومة السورية على استغلال الخبرة الروسية والاستفادة منها في إعادة تأهيل شبكات الطاقة ومحطات التوليد، بينما ترى موسكو في هذه الملفات منفذاً لبسط نفوذ اقتصادي طويل الأمد.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة –حسب إسماعيل- فالشارع السوري لا ينظر بعين الرضا لروسيا، ويرى فيها طرفاً ارتبط بالحرب أكثر مما ارتبط بالإعمار، وبالتالي، أي تعاون اقتصادي برأي إسماعيل بين سورية وروسيا لن يحظى بقبول واسع من قبل الشعب السوري، ما لم يترجم بسرعة إلى تحسن ملموس في حياة الناس.
البعد الاجتماعي
ولفت إسماعيل إلى أن البنية الاجتماعية السورية متعبة بعد سنوات من النزوح والدمار، الروس يدركون أن أي فشل اقتصادي سينعكس على الاستقرار المجتمعي، لذلك، تحاول دمشق أن تجعل المشاريع الروسية مرتبطة بتحسين الخدمات المباشرة، لا فقط استثمارات ضخمة بعوائد بعيدة المدى، ونجاح هذا المسار قد يفتح باباً لترميم الثقة، أما الإخفاق فسيعزز النظرة السلبية الراسخة تجاه موسكو.
السياسة وإعادة التموضع
وعلى المستوى السياسي، بيّن إسماعيل أن دمشق أوضحت أنها تريد علاقة قائمة على السيادة والشفافية، لا تكراراً لنمط التبعية السابق، التعامل مع روسيا يُقدَّم الآن كأداة لتحقيق توازن إقليمي، لا كتحالف مطلق، من هنا يمكن فهم حرص الحكومة السورية على إشراك أطراف أخرى مثل قطر أو الصين في مشاريع إعادة الإعمار إلى جانب روسيا، لتجنّب الارتهان لطرف واحد.
الأبعاد الدولية
وبالنسبة لروسيا، يرى إسماعيل أن هذه الزيارة تبدو محاولة لإعادة تعريف دورها في سوريا، فبدلاً من الوجود العسكري الكثيف، هناك توجه إلى الاستثمار في الطاقة والبنى التحتية كمدخل لترسيخ الحضور، وموسكو تدرك أن الحروب تستنزف، بينما المشاريع الاقتصادية تضمن حضوراً أكثر استدامة وأقل كلفة.
ورقة تفاوضية
ومن الجهة الأخرى، تستفيد دمشق من العلاقة مع موسكو كورقة تفاوضية في مواجهة الغرب، فوجود شريك روسي يعطيها هامشاً أوسع للتحرك، خاصة مع التحضيرات لزيارة الرئيس السوري إلى موسكو الشهر المقبل، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن الإفراط في الاعتماد على روسيا قد يضر بمصداقيتها الإقليمية.
التوازن الإقليمي
ويرى إسماعيل أن روسيا تطمح إلى لعب دور الوسيط بفضل علاقاتها مع إسرائيل وبعض القوى الإقليمية، لكن مدى واقعية هذا الدور يبقى موضع شك، فالتعقيدات الإقليمية برأيه تفوق قدرة موسكو وحدها على إدارتها، مع ذلك، تبقى روسيا لاعباً لا يمكن تجاهله في المعادلة السورية الجديدة.
فرص التنفيذ وحدودها
وأكد إسماعيل أن مشاريع الطاقة قابلة للتحقق إذا توفرت شفافية في العقود وضمانات لعدم احتكار الروس للقطاع، ونوه أن الزراعة والصحة أقل أولوية بالنسبة لموسكو، ما يجعل نجاحها مشروطاً بتمويل خارجي أو دعم مؤسسات دولية.
ولفت إلى أن الدور الروسي كوسيط إقليمي احتماله ضعيف ما لم تحصل موسكو على تفاهمات موازية مع إيران وإسرائيل، مشيراً إلى أن الشراكة السياسية المتوازنة ممكنة نظرياً، لكنها ستتطلب وقتاً طويلاً وتجارب عملية.
الزيارة الروسية إلى دمشق –حسب إسماعيل- فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، لكنها ليست صفحة بيضاء، هناك ذاكرة مثقلة في الشارع السوري تجعل أي تعاون مع موسكو محفوفاً بالشكوك، في المقابل، ترى روسيا أن الاستثمار في الطاقة والبنية التحتية قد يكون فرصتها الأخيرة للحفاظ على حضور مؤثر في سوريا.
بالمحصلة يختم الخبير الاقتصادي علي إسماعيل، نجاح ما تم الاتفاق عليه مرهون بقدرة الطرفين على تحويل الوعود إلى إنجازات ملموسة، وبمدى استعداد دمشق لإدارة العلاقة مع موسكو ضمن إطار توازن إقليمي لا يسمح بتحوّلها إلى تبعية جديدة.