الحرية – بشرى سمير:
اشتهرت سوريا تاريخياً بقطنها فائق الجودة الذي أطلق عليه “الذهب الأبيض” لدوره المحوري في الاقتصاد الوطني.
لكن بعد أكثر من عقد ونصف من الحرب والعقوبات الدولية المتعددة تراجعت زراعة القطن بشكل حاد والزراعة التي كانت تاريخياً من المحاصيل الإستراتيجية والمصدر الرئيسي للدخل القومي والعملات الصعبة، تواجه في الوقت الراهن تحديات جسيمة ومعقدة، أدت إلى تراجع كبير في مساحاته وإنتاجه.
المهندس الزراعي الخبير الاقتصادي راشد الجاسم بين أن سبب التسمية “الذهب الأبيض” لأنه كان المحصول الزراعي الأكثر ربحية ودخلاً للعملات الأجنبية لعقود وشكل عماد الاقتصاد السوري لفترات طويلة (خاصة في الستينيات والسبعينيات)، وقد كان المصدر الرئيسي للدخل القومي وصادرات البلاد وساهم بشكل كبير في التنمية الصناعية عبر صناعة النسيج.
وبين الجاسم أن زراعة القطن السوري تتركز في محافظة حلب: أكبر منطقة منتجة للقطن، خاصة مناطق منبج والباب وإعزاز، وفي محافظة الرقة ثاني أكبر منطقة إنتاج وفي محافظة دير الزور قبل الحرب وفي الحسكة .
وعزا الجاسم انهيار زراعة القطن في سوريا إلى تقلص المساحات المزروعة من أكثر من 200 ألف هكتار قبل الحرب، إلى بضعة آلاف فقط في بعض السنوات، وذلك بسبب العقوبات المالية والاقتصادية التي فرضت على سوريا بسبب ممارسات النظام البائد عزلت سوريا عن النظام المالي العالمي، ما أعاق استيراد المدخلات الزراعية والمواد الأساسية مثل البذور المحسنة، الأسمدة، المبيدات، وقطع غيار الآلات الزراعية، ما رفع تكاليف الإنتاج وأثر على الجودة والإنتاجي. من جانب آخر هناك صعوبة تصدير المنتج النهائي (القطن وخيوط الغزل) إلى الأسواق الدولية التقليدية، وفقدان العملاء والسمعة التجارية.

كما عانت سوريا من عقوبات قطاعية لامست بشكل مباشر النفط والطاقة، ما أثر على قدرة المزارعين على تشغيل مضخات الري إضافة إلى انهيار البنية التحتية وتضرر السدود وشبكات الري وهجرة الأيدي العاملة والخبرات الزراعية.
وتوقع الجاسم أن يؤثر رفع العقوبات عن سوريا بشكل كبير على زراعة القطن المحصول الاستراتيجي الأول في سوريا من خلال عودة الاستثمارات الأجنبية في القطاع الزراعي والسماح وتسهيل استيراد المدخلات الزراعية الحديثة والتقنيات المتطورة وإعادة بناء البنية التحتية المتضررة عبر شراكات دولية، ما يساهم تالياً في فتح أسواق تصديرية جديدة واستعادة الأسواق التقليدية وتحسين القدرة المالية للدولة لدعم المزارعين عبر القروض الميسرة.
ولم يخف الجاسم وجود تحديات طبيعية منها تغير المناخ والجفاف المتفاقم الذي يهدد الموارد المائية وازدياد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة مثل الجفاف وموجات الحر، ما يزيد من استهلاك المياه ويؤثر على نمو المحصول. حيث يعاني حوض الفرات، وهو المنطقة الرئيسية لزراعة القطن، من جفاف حاد ونقص متزايد في حصص المياه بسبب سدود المنبع (في تركيا)، وسوء إدارة الموارد، وتراجع معدلات الهطل المطري وتدهور التربة بعد سنوات من الزراعة العشوائية نتيجة للإفراط في الاستخدام والتلوث، ما قلل من خصوبة الأراضي.
وأشار الجاسم إلى وجود تحدي المنافسة الدولية الشرسة في سوق القطن العالمية والحاجة الوقت لمعالجة بعض المشاكل الهيكلية في الاقتصاد السوري حتى بعد رفع العقوبات.
خبير زراعي واقتصادي: عودة الاستثمارات الأجنبية الزراعية وتسهيل الاستيراد والتصدير
الصعوبات الاقتصادية والمالية
وحول وجود صعوبات اقتصادية أوجزها الجاسم بانهيار الليرة السورية وارتفاع التضخم ما أدى إلى ارتفاع هائل في تكاليف الإنتاج (الوقود، الأسمدة، العمالة، النقل) بينما أصبحت الأسعار المدعومة من الحكومة غير مجدية اقتصادياً للفلاح.
ونقص الوقود والكهربا حيث يؤثر بشدة على تشغيل آلات الزراعة والري والمضخات، ما يعطل المواعيد الزراعية ويخفض الإنتاجية وتطرق الجاسم إلى وجود مشكلات تتعلق بالإدارة والسياسات الزراعية إذ تعاني زراعة القطن من فساد واستغلال بعض الوسطاء الذين يشترون المحصول من الفلاحين بأسعار متدنية إضافة إلى توجه الفلاحين لمحاصيل بديلة مثل القمح أو الذرة، التي تكون أقل استهلاكاً للمياه وأكثر ضماناً من حيث التسويق المحلي والأمن الغذائي في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
بالأرقام
ولفت الجاسم إلى أن إنتاج القطن في سوريا تراجع كثيراً منذ العام 2011، مشيراً إلى أنه بلغ 717 ألف طن من إجمالي مساحة مزروعة بلغت 175 ألف هكتار، بينما سجل القطن العام الماضي 2024 ما يقارب 18 ألف طن فقط، وكان 150 معمل غزل ونسيج في سوريا إضافة إلى توفير فرص عمل لمئات الآلاف وصناعات تحويلية مرتبطة (الزيوت، الأعلاف).
وأشار إلى أن رفع العقوبات عن سوريا يمكن أن يشكل نقطة انطلاق لإحياء زراعة القطن، لكنه ليس ضمانة للعودة إلى “عصر الذهب الأبيض”.
مشيراً إلى أن النجاح مرهون بمعالجة مجموعة معقدة من التحديات الداخلية والخارجية، واستعادة هذا القطاع يتطلب جهداً وطنياً متكاملاً وشراكات إقليمية ودولية فاعلة.
وأضاف: قد يكون القطن السوري قادراً على استعادة بعض من بريقه، لكن في صيغة جديدة تتكيف مع الجغرافيا السياسية والاقتصادية المتغيرة للمنطقة والعالم، وتالياً لابد من إعادة تأهيل الأراضي والبنى التحتية للري واعتماد سياسات داعمة تشجع المزارعين على العودة لزراعة القطن واستعادة الثقة الدولية بجودة المنتج السوري واستخدام ودمج التكنولوجيا الحديثة في عمليات الزراعة والحصاد والمعالجة وأخيراً تنويع منتجات القطن لزيادة القيمة المضافة.
وختم بأن القطن السوري هو إرث اقتصادي واجتماعي، وإحياؤه سيكون مؤشراً مهماً على التعافي الاقتصادي الأوسع، إذا ما اقترن بحوكمة رشيدة ورؤية تنموية مستدامة.