الحرية- حسين الإبراهيم:
• من الذي فقد سلطته: الصحفي أم القصة؟
• بأي طريقة يمكن للآلة أن تكتب نصاً يُشبه الحياة؟
• ما الذي يجعل السرد الصحفي مقاوماً للبرمجة؟
• هل هناك مبرر لاستبدال الصحفي حين يتخلى عن الإبداع؟
• إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعيد تعريف الخبر دون أن يُفرغه من روحه؟
إثارة هذه الأسئلة تؤكد أن الصحافة الحقيقية تظل فعلًا إنسانيًا لا يُختزل في معالجة بيانات أو توليد محتوى. الصحفي ليس ناقلًا للمعلومة، بل مهندس للمعنى، وصانع للجسور بين العقل والعاطفة. مهما بلغ الذكاء الاصطناعي، من دقة وسرعة، يظل عاجزًا عن خلق تجربة إنسانية حية، لأنه لا يشعر، ولا يتألم، ولا يحلم.
الصحافة بين الروح والرقم
كلنا نشهد هذا الزمن الذي تتسارع فيه التكنولوجيا وتطغى الآلات الذكية على مناحي الحياة المختلفة، لكن ذلك لم يغير من الحقيقة التي تقول إن جوهر الصحافة وفعلها الأساسي أمر إنساني بامتياز، لا يمكن اختزاله في مجرد نقل آلي للأخبار والمعلومات. على أننا لاننكر وجود بعض الصحفيين الذين يتعاملون مع مهنتهم كإجراء تقني بحت، ناقل للمعلومات، حيث تصبح الصحافة مجرد رصد للبيانات وتكرار للوقائع، دون الغوص في عمق القصة أو إضفاء البعد الإنساني عليها.
الصحافة الحقيقية تكمن في قدرتها على مخاطبة العقل والقلب معاً، لأنها ليست مجرد سرد للحقائق، بل تجربة تعبر عن نبض الحياة، تحتضن المشاعر، وتثير التفكير. أما الذكاء الاصطناعي، القادر على جمع وتحليل كم هائل من البيانات بسرعة ودقة، فإنه يخاطب العقل فقط، ويفتقر إلى القدرة على إيقاظ الأحاسيس أو خلق تواصل إنساني عميق. وهذا النقص في البعد العاطفي يقلل من قوة التأثير الصحفي، ويجعل من المحتوى الناتج سرداً تقنياً خالياً من الروح.
في هذا السياق، يصبح على الصحفي أن يدرك أن مهنته تتفوق على المهام الآلية التي تؤديها أدوات الذكاء الاصطناعي، وأن دوره هو مزج التقنية بالإنسانية ليبدع سرداً يحمل بصمته الشخصية ويصل إلى وجدان المتلقي، ما يحفظ للصحافة مكانتها كفن وعامل مؤثر في مجتمعاتنا.
قوة الذكاء الاصطناعي من قوة الصحفي
في عالم الصحافة الحديثة، وُجد الذكاء الاصطناعي ليكون أداة ترفع مستوى القيمة المضافة للمادة الصحفية في المجال العقلي، من دون أن يتدخل في مجال الأحاسيس أو المشاعر أو التفاعل الإنساني مع المتلقي. فهو أداة محايدة تركز على معالجة البيانات وتحليلها بسرعة ودقة لا تضاهى، ما يجعله مساعداً لا بديلاً للصحفي. إذ يحرر الذكاء الاصطناعي الصحفي من أعباء الأعمال الروتينية التي تستنزف الوقت والجهد من دون أن تضيف قيمة جوهرية.
تكمن قوة الذكاء الاصطناعي في كيفية استثمار الصحفي له، بوضعه في المكان والزمان والموضوع المناسبين. وهو ما يتجلى في عدة أمثلة عالمية مثل مساعد “تايم AI” الرقمي الذي يساعد القراء على البحث بنكهة “شخصية العام” في مجلة تايم، أو تقنية “هيليوغراف” التي طورتها صحيفة “واشنطن بوست” لمساعدة الصحفيين على إنشاء مقالات وتحديثات قصيرة بناءً على بيانات منظمة في مجالات الرياضة والانتخابات والمالية. كما تستخدم “بي بي سي” أداة “سالكو” التي تنتج تقارير محلية تلقائياً للمساعدة في تغطية الأخبار بكفاءة.
كما يقول الصحفي الأمريكي والرائد في دمج التكنولوجيا مع العمل الصحفي، جيف جاربيس:
“الذكاء الاصطناعي يحرر الصحفي من المهام الروتينية ليضعه في موضع الفنان الحقيقي للخبر، حيث الإبداع والمعنى يأخذان مأخذهما.”
في أول تجربة لي لتأسيس موقع صحفي رقمي، أدركت أن الكود يشبه اللغة: كلاهما يصنع سلطة، لكن الفرق يكمن في المعنى. حين تُبرمج القصة، لا تكتفي بنقلها، بل تُعيد تشكيلها لتصبح مرآة للواقع، لا مجرد انعكاس له.
ركيزة الإبداع وجسر السرد الصحفي
الإبداع في الصحافة هو الذي يحول الأخبار إلى تجارب إنسانية حية تنبض بالمشاعر والأفكار، وصانع هذا الإبداع هو الصحفي الذي يتعامل مع صحافته كفنٍّ يحمل بعداً إنسانياً وقيماً تثري المجتمعات. هذا الصحفي المدرك لأهمية الذكاء الاصطناعي لا يراه تهديداً، بل مكمل ومساعد يحرر وقته وجهده من المهام الروتينية، ليتيح له فرصة التفرغ لتطوير سرد قصصي غني، يعكس عمق القصة وروحها.
هنا تتجلى المعادلة الواضحة:
الصحفي المبدعّ، الذي يعطي الصحافة بعدها الإنساني والذاتي والقيمي، لا يخشى دخول التقنيات الحديثة إلى عالمه، بل يرحب بها باعتبارها أداة تعزز من فاعليته وتميزه.
إنه الصحفي القادر على استخدام الذكاء الاصطناعي كجسر إلى سرد أكثر عمقاً وتأثيراً، حيث يكتمل الذكاء الاصطناعي بلمسة الإنسان، ويصبح التوازن بينهما هدفاً وإستراتيجية ناجعة للحفاظ على جوهر الصحافة وروحها الخلاقة.
التنافر والتكامل بين الصحفي والتقانة
عند دخول الذكاء الاصطناعي إلى فضاء الصحافة، وجد الصحفي نفسه أمام تنافر واضح بين مهاراته البشرية وإمكانات الآلة الذكية. فبينما يرى بعض الصحفيين في الذكاء الاصطناعي تهديداً يستهدف دورهم المهني، ينجح آخرون في تحويل هذا التحدي إلى فرصة حقيقية لإبراز تفردهم الإبداعي وبناء علاقة إنسانية أكثر عمقاً مع المتلقي. هنا تكمن الإشكالية الأساسية: هل يستخدم الصحفي الذكاء الاصطناعي كأداة تساعده على إثراء سرد القصة أو يكتفي بنقله المعلوماتي ليصبح مجرد ناقل بيانات؟
الصحفي المبدع الذي يعي قوة الذكاء الاصطناعي لا يخشى وجوده، بل يستثمره بذكاء لتحويل المعلومات الخام إلى محتوى إبداعي يحمل بصمته الشخصية، ويبرز تفرده في صياغة القصة والتفاعل مع الجمهور. هذا الاستثمار الذكي يتيح له بناء علاقة شخصية مع المتلقي، وتعزيز التفاعل الذي يتجاوز مجرد عرض البيانات إلى خلق تجربة إنسانية تلامس العقل والقلب معاً.
أما الصحفي الناقل للمعلومات، فيشعر بأن التقنية الذكية تهدد وجوده، حيث يمكن أن تحل محل مهامه الروتينية بسهولة. وهنا فإن عدم استثماره في تطوير مهاراته السردية والإنسانية يجعل دوره هامشياً في ظل الثورة الرقمية، ما يبرز الفرق الجوهري بين الصحفي المبدع الذي يخلق قيمة مضافة، والصحفي التقني الذي يفتقد البصمة الشخصية ويتراجع دوره أمام الذكاء الاصطناعي.
في النهاية، تكمن قوة الصحافة الحقيقية في هذا التكامل الواعي بين الإنسان والآلة، حيث يفيد الذكاء الاصطناعي كأداة تدعم الإبداع وتنقله لمستويات أعلى، ولا يكون بديلًا عن الروح الإنسانية التي تحمل القصة وتحقق التأثير الحقيقي.
تصنيفات الصحفي في عصر الذكاء الاصطناعي
مع تصاعد حضور الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، تتمايز فئات الصحفيين بحسب قدرتهم على استثمار الإمكانيات المتاحة وتطوير دورهم المهني. يمكن تصنيف الصحفيين في هذا السياق إلى أربعة أنواع رئيسية وفق الجدول التالي:
جدول تصنيف الصحفيين
هذه التصنيفات توضّح أن الصحفي الذي يطوّر أدواته ويعزز مهاراته الإنسانية هو الأكثر قدرة على تحويل الذكاء الاصطناعي من تحدٍ إلى فرصة، بينما يبقى من يكتفي بالنقل أو يعتمد فقط على التقنية بعيداً عن جوهر الصحافة، معرضاً لأن يفقد مكانته في ظل التغييرات المتسارعة.
البعد الإنساني في السرد الصحفي
يشكل البعد الإنساني في السرد الصحفي جوهر وعمق المهنة، إذ يميّز القصة الصحفية الحية عن مجرد سرد إجرائي لوقائع وأحداث. فالسرد الصحفي الحقيقي لا يقتصر على نقل الحقائق فقط، بل يتعداه ليخاطب العقل والقلب معًا، موفراً تجربة إنسانية شاملة تنتقل من الوقائع إلى المعاني، ومن المعلومات إلى المشاعر.
هذا البعد الإنساني هو الذي يُحيي المادة الصحفية ويمنحها القدرة على التأثير والتحرك في وجدان المتلقي، وهو ما لا يمكن للذكاء الاصطناعي تحقيقه بشكل كامل. فالآلة تعالج البيانات، لكن الإنسان يربطها بالحياة، ويُثريها بالحدس والروية والتفاعل العاطفي.
مع تطور الصحافة واندماج التقنيات الحديثة، يظل المستقبل معقودًا على تعزيز هذا الجانب الإنساني في العمل الصحفي. فالصحافة التي تُزكّي الروح وتلامس المشاعر وتثري العقل، هي التي ستبقى قادرة على الاحتفاظ بمكانتها وقيمتها في عالم سريع التغير، وتستمر في لعب دورها الحيوي كمرآة للمجتمع وصوت الإنسانية.
كيف نحافظ على جوهر الصحافة؟
في ظل التحديات التي تفرضها أدوات الذكاء الاصطناعي على الصحافة، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف دور الصحفي بوصفه صانعًا للمعنى لا مجرد ناقل للخبر. لم يعد كافيًا أن يُتقن الصحفي أدوات التحرير التقليدية، بل بات من الضروري أن يُدمج بين الحس السردي والقدرة التقنية، ليصنع محتوى يُحاكي العقل ويُلامس الوجدان. إن دمج الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي يجب أن يتم بوصفه أداة مساعدة، لا بديلًا عن البصمة الإنسانية التي تمنح النص روحه. ومن هنا، يصبح تطوير مهارات السرد والتحليل ضرورة لا ترفًا، خاصة في ظل جمهور بات أكثر وعيًا وتطلبًا.
ولعل أحد أهم مداخل الحفاظ على جوهر الصحافة يكمن في بناء علاقة تفاعلية مع المتلقي، علاقة تتجاوز تقديم المعلومة إلى صناعة تجربة معرفية تُحفّز التفكير وتُشجع على المشاركة. الصحفي اليوم مطالب بأن يُعيد صياغة دوره، لا فقط في إنتاج المحتوى، بل في مساءلة الواقع، والتحقق من المعطيات، وتقديم سرديات تُقاوم التبسيط وتُعيد الاعتبار للتعقيد الإنساني.
إجابات
- الصحفي الذي يتخلى عن دوره كمهندس للمعنى هو من يتراجع، لا القصة ذاتها.
- يمكن للآلة أن تكتب نصًا يُشبه الحياة، ولكن فقط حين يُوجّهها عقل صحفي يُدرك أن الحياة ليست بيانات، بل نبض وسياق وتجربة.
- السرد الصحفي يقاوم البرمجة لأنه لا يُختزل في بنية لغوية أو خوارزمية، بل ينبع من موقف إنساني، ومن قدرة على التقاط المعنى في التفاصيل الهامشية التي لا تراها الآلة.
- يُستبدل الصحفي حين يتخلى عن الإبداع لأن الصحافة ليست وظيفة، بل فعل خلّاق. من يكتب دون بصمة، يُمكن استبداله بمن يُنتج المحتوى آليًا.
- يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعيد تعريف الخبر دون أن يُفرغه من روحه إلى الحد الذي يظل فيه الصحفي هو من يُقرر زاوية السرد، لا الخوارزمية. حين يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة لا كقائد، يبقى للخبر روحه.
ويبقى السؤال:
هل سنكتفي بصحافة تُنتجها الخوارزميات، أم سنُعيد للكتابة دورها كمساحة للتمرد الخلّاق؟.