الحرية – مها سلطان:
لا يزال الترقب الحذر قائماً حول السويداء رغم أن فرص نجاح اتفاق وقف إطلاق النار تبدو أوسع في ظل الهدوء الذي ساد الأجواء اليوم، وهو اليوم التالي على الاتفاق، وفي ظل دخول قوافل مساعدات طبية وغذائية إلى المحافظة، وحيث أن الدولة حريصة أكثر فأكثر على منع انهيار الاتفاق من خلال احتواء وسد المنافذ والثغرات أمام من يريدون إشعال الأوضاع مرة أخرى.
هؤلاء لا يزالون يمنعون الدولة من الحضور في المحافظة ومن ممارسة دورها في تأمين الحماية والاستقرار، عبر منع دخول وفد حكومي مع قوافل المساعدات، وعبر منع إدخال عدد من المواد، منها الخبز، رغم أنه أحد أهم المواد الغذائية (مع استمرار منع وسائل الإعلام من الدخول إلى المحافظة ونقل ما يجري فيها)، ومع ذلك فإن الدولة تستجيب على قاعدة «سد الذرائع» والعمل على كل المستويات لمنع عودة الاقتتال، فالمجموعات الخارجة عن القانون ما زالت تسعى لتنفيذ أجندتها الملغومة، المرتبطة خارجياً، والقائمة على تلغيم السلم الأهلي، وإحباط كل محاولات الدولة (والوسطاء) للحفاظ على وحدة التراب السوري وتمكين المؤسسات من العمل والبدء بعملية النهوض والبناء.
لا شك أن أحداث السويداء جاءت في توقيت حساس جداً للدولة التي تستعد لجني ثمار ما أنجزته خلال الأشهر الثمانية الماضية على صعيد الانفتاح العربي والدولي، وكسر العقوبات، واستقطاب الاستثمارات.. وصولاً إلى مرحلة البدء بالتنفيذ على الأرض.
السويداء و«غرف الصدى».. كيف تتلاعب شبكات التواصل الاجتماعي بعواطفنا وتستغل مآسينا لتلغيم بلادنا بالطائفية والتقسيم؟
وإن كان المجتمع الدولي يبدو «متفهماً» لما يجري، ومسانداً للدولة، ويتوسط لتحقيق التسويات والتهدئة، إلا أن أحداثاً مثل أحداث السويداء تعرقل وتؤخر بصورة خطيرة عملية النهوض والبناء، وتؤثر على مجمل الثقة بسوريا، ما يُحمل الدولة مسؤوليات مضاعفة في الوقت الذي كان من المفترض أن تتفرغ للعمل على مسارات التنمية وتحصين ما تحقق.
من هنا تنطلق مخاوف السوريين التي لا تهدأ، صحيح أن الأحداث في السويداء هدأت، لكنها قد تعود، وحتى لو لم تعد، يتساءل السوريون حول متى تندلع أحداث أخرى في منطقة أخرى؟
يخشى السوريون على الدولة، وتالياً على بلادهم، وهي خشية تتصاعد مع كل أحداث تقع، ويتساءلون لماذا تقع هذه الأحداث، ولماذا يستمر وقوعها.. كيف تقع وتمتد، وكيف تستطيع قلة قليلة أخذ الأحداث نحو أخطر المنعطفات؟
المجموعات الخارجة عن القانون مستمرة في تنفيذ أجندتها الملغومة المرتبطة خارجياً والقائمة على تلغيم السلم الأهلي وإحباط كل محاولات الدولة للحفاظ على وحدة التراب السوري وتمكين المؤسسات من العمل والبدء بعملية النهوض والبناء
تساؤلات مشروعة بلا شك، لكن إجابتها عند السوريين أنفسهم ومن خلال تعاطيهم «الاجتماعي» معها، بمعنى تعاطيهم معها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لم يعد لها من اسمها نصيب بل تحولت إلى وسائل تباغض اجتماعي بأعلى مستوى من التحريض والتجييش والتضليل، فإذا كانت القاعدة الأساسية هي بين السوريين هي المحبة والعيش المشترك والتآزر تحت سقف وطن واحد، فلماذا لا يظهر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، ولماذا يتم التعاطي مع كل ما ينشر فيها على أنه حقائق رغم المعرفة المسبقة بأن كل ما يُنشر يتبع لأجندات ومصالح، وحتى لأهواء شخصية/فردية؟
لماذا يتم تناقل ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي دون تمييز، ودون الاتجاه نحو تعميم الجيد منه، ونبذ الخبيث منه؟
يخشى السوريون على الدولة وعلى بلادهم فلا تكاد تهدأ مخاوفهم ويتساءلون لماذا تقع هذه الأحداث وكيف تتوالى وتمتد، وكيف تستطيع قلة قليلة أخذ الأحداث نحو أخطر المنعطفات؟.. لكن الجواب عند السوريين أنفسهم
كلها أسئلة برسم السوريين أنفسهم، فهم معنيين مثلهم مثل الدولة، في تحقيق السلم والاستقرار، وتمكين الدولة من ممارسة دورها، ليزدهر الوطن ويعلو شأنه. كل ما جرى على مستوى الأحداث الأمنية منذ ثمانية أشهر يؤكد على ضرورة حتمية وهي التعاون مع الدولة لعبور هذه المرحلة بأمان، علينا التسلح بالدولة كحامية وضامنة، وليس الاستقواء بالخارج، فنحن بمجموعنا وبدولتنا نشكل سوريا القوية المزدهرة.
حتى كتابة هذه السطور، ورغم كل الجهود التي تبذلها الدولة لتعزيز الحوار وتحقيق السلم الأهلي، هناك من لا يزال يحرض ويجيش ويضلل.. لا تزال وسائل التواصل الاجتماعي طافحة بمنشورات التباغض والتكاره والتحريض؟!
في 11 أيار الماضي، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» تحقيقاً استقصائياً غاية في الأهمية، حول وسائل التواصل الاجتماعي وما تنشره من حملات تحريض وتجييش تستهدف سوريا بصورة مركزة جداً، على مستوى الدولة/القيادة، وعلى مستوى الشعب/الطوائف، الأقليات، المناطق.. الخ.
فتش عن شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى تباغض اجتماعي فإذا كانت القاعدة الأساسية بين السوريين هي المحبة والعيش المشترك فلماذا لا يظهر ذلك على هذه الوسائل؟ ولماذا يتم التعاطي مع كل ما ينشر فيها على أنه حقائق دون ترك مسافة أمان لناحية التأكد والتحقق؟
كشف هذه التحقيق عن الكثير من الحسابات الخارجية التي تنشط خصوصاً على منصة «إكس» وتعمل على تأجيج الطائفية ونشر خطاب الكراهية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع في سوريا.
وأوضح التحقيق أن هذه الحسابات تُدار بشكل منسّق ومنهجي، ضمن حملات إلكترونية استهدفت الحكومة السورية وبعض الأقليّات، بالتزامن مع التغيرات السياسية التي تشهدها البلاد.
وقد تمكّن فريق “بي بي سي” لتقصي الحقائق من تتبّع نشاط هذه الحسابات من خلال رصد أكثر من مليوني منشور مرتبط بالأحداث في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول الماضي.
كل ما يجرى من أحداث أمنية يؤكد حتمية التعاون مع الدولة لعبور هذه المرحلة بأمان.. علينا التسلح بالدولة كحامية وضامنة، وليس الاستقواء بالخارج فنحن بمجموعنا ومع دولتنا نشكل سوريا القوية المزدهرة
وقام الفريق بتحليل عينة تشمل أكثر من 400 ألف منشور على منصة إكس. وكشف التحقيق عن أساليب تلاعب تستخدمها بعض الحسابات، مثل تفعيل الحسابات المبرمجة والوهمية، والاستغلال الخوارزمي للسيطرة على الخطاب الإلكتروني. كما شملت تكتيكات شائعة مثل النشر المتزامن، وإعادة نشر المحتوى القديم، ونسج روايات ملفّقة للتأثير على الرأي العام.
وفحص فريق «بي بي سي» لتقصي الحقائق، 50 ألف منشور يحتوي على ادّعاءات كاذبة أو غير موثوقة ضد الإدارة السورية الجديدة، وتبيَّن أن 60 في المئة من هذه المنشورات صادر عن حسابات حَدّدت أدوات التحليل موقعها الجغرافي خارج سوريا، خاصةً في العراق واليمن ولبنان وإيران.
وتظهر هذه الحسابات عدة مؤشرات على التلاعب المُنسّق وبعضها ينشر محتوىً متزامناً، أو يشارك المنشورات نفسها في التوقيت ذاته، فيما يبدو أنه استخدام لبرامج روبوتية أو حملات منظمة.
علاوة على ذلك، تحمل العديد من الحسابات أسماء تتكون من أحرف وأرقام عشوائية، وهي سمة شائعة في شبكات الروبوتات والحسابات المزيفة.
وتحتوي العديد من محادثات التواصل الاجتماعي على خطاب تحريضي وانقسام طائفي، وغالباً ما تشهد تصاعداً يتزامن مع أحداث أمنية على الأرض.
تتّبع هذه الحسابات نمطاً متطابقاً في النشر، إذ تقوم بنشر منشورات متماثلة خلال فترات زمنية قصيرة، بهدف إغراق المحادثات على منصة إكس بخطابها.
وتستخدم هذه الحسابات، التي يتابع بعضها بعضاً، لغة ومفردات متكررة في التعبير عن آرائها، ما يشير إلى وجود تنسيق مسبق بينها. كما أن العديد من أسماء الحسابات تتكوّن من مزيج عشوائي من الأرقام والحروف، ما قد يدلّ على أنها حسابات وهمية أُنشئت لغرض محدد، يتمثل في نشر محتوى معيّن بطريقة ممنهجة.
الوعي والحذر والتحقق كفيل بأن ينجينا وينجي بلادنا وأن يكون عوناً للدولة في مهماتها وعلى رأسها تحقيق الأمن والسلم الأهلي للانطلاق نحو عملية بناء حقيقية لسوريا
وتقوم العديد من هذه الحسابات بإعادة نشر محتوى من حسابات أخرى، مما يشير إلى وجود تضخيم منسق للروايات بغض النظر عن صحتها وبما يدفع المستخدمين إلى ما يسمى بـ «غرف الصدى» حيث يتم تكرار الروايات نفسها بشكل يعزز الاعتقاد بصحتها، ويساهم في زيادة الانقسام الاجتماعي، فيما كان هنالك ميل لنشر مقاطع فيديو قديمة أو غير دقيقة، من أجل نشر الفتنة في فترة حساسة سياسياً.
وغني عن القول بأن كل ذلك يعتمد على اللعب على الوتر العاطفي لأنه يحصد تفاعلاً كبيراً، فتسعى إلى الاستثمار في الألم والمعاناة لتحقيق أغراضها، علماً أن سوريا ليست حالة فريدة، فالتضليل الإعلامي، أو على وسائل التواصل الاجتماعي/ ليس مجرد مشكلة محلية بل هو نمط عالمي تعاني منه دول كثيرة، بما فيها دول وازنة إقليمياً ودولياً.
لأن جميعنا يعرف ومدرك مسبقاً لكل ما سبق، فإن هذا أدعى إلى أن يستدعي منا الوعي والحذر والتحقق والتأكد من كل ما يُنشر خارج وسائل الإعلام الرسمية. هذا الوعي والحذر والتحقق كفيل بأن بنجينا وينجي بلادنا، وأن يكون عوناً للدولة في مهماتها، وعلى رأسها تحقيق الأمن والسلم الأهلي للانطلاق نحو عملية بناء حقيقية لسوريا.