الشاعر منذر حسن عن البناء الشعري وتعددية الأسلوب

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:

“لا فرقَ بين أبلهٍ وداهية، يقولُ الصّولجان.
لا فرقَ بين القمحِ والزّوان، تقولُ المطحنة”.
كانت بداية الشاعر منذر حسن مع “شموخ السنديان- 1994م” أولى مجموعات إصداراته الشعرية، ولبعض الوقت.. بعدها أصدر “أدعوك فاتحة السّحاب-1996م”، وبعدها بعامٍ كانت ثالث أعماله الشعرية “دنيا- 1997م” وبعد فترة تأملٍ كانت رابعته الشعرية “كُن عشبيَ الّذي..2015م” وجميعها صادرة عن دار أرواد بطرطوس.. إلى أن “أفرَدَ الحُسنُ هواه” له في الهيئة العامة السوريّة للكتاب سنة2016م، وهي المجموعة الخامسة، لتأتي نصوصه
كـ “الحبُّ كرمٌ من نُعاسٍ غامرٌ، ليقتُلني دونه وسنٌ..”
وفي هذا النتاج الثّري للشاعر مُنذر حسن، يبدو وكأنه يُريد أن يقول الشعرَ دفعةً واحدة، وذلك من خلال أسلوب القول الشعري الذي اتبعه في هذه المجموعات، نصوص تتابع ضمن إيقاعات تعلو تارة كومضة شعرية، يتوخى الشاعر وضعها في الطريق الشعري حتى لا يبقى الطريق على استقامته، وإنما دائماً يمرُّ في مناطق مختلفة من صعودٍ ونزول، وأحياناً ينبسط لمسافة أكثر من صفحةٍ في البياض، وهذا ما تشي به النصوص من خلال عدّة إشارات، أو ملامح، فمرةً تقصر لبضع كلمات بكامل المجاز، ومرة تنوس لسرد يُقارب الحكاية. مرة يذهب صوب الحكمة والتأمل والقصيدة الفكرة، ومرة يقترب من القصيدة الصورة، مرة تأتي قصيدة موزونة تتزيّن بقوافيها، ومرة قصيدة تفعيلة، وفي ثالثة قصيدة نثر تهرب بعيداً من التفعيلات. وعلى مثل هذا التنويع تأتي القصيدة تدفقاً كمجرى، مرةً يتدفق، وأخرى يحفر عميقاً مثقلاً في جريانه.
غير أن السمة العامة لقصيدة منذر حسن، هو تركيزه على قضية التكامل البنائي العالي، ومؤكداً على الدلالات العليا للبناء النصي الذي يجمع الدلالات الجزئية في المقاطع ويُحيلها إلى مستوى إبلاغي أعلى وأوسع. بمعنى توظيف الدال بالمفردة إلى انزياحها في صورة موظفة لمدلول أراده بوعي تام. وبا “التنصيص” الذي أجاده على نحوٍ مُدهش، التنصيص الذي لم يأتِ هنا تضميناً، ولا بناء على ما مضى من تراكيب نصوص مثيولوجية أو من كتب مُقدسة، وإنما كانت في مُناكفة النص القديم والحكي المألوف لتشكيل مخلوق حداثي.
يعد الشاعر منذر حسن واحداً من الأصوات الشعرية المعاصرة التي تميزت بتنوعها الفني وإبداعها في أساليب التعبير، من خلال مجموعاته الشعرية المختلفة، يُظهر الشاعر براعةً في استخدام اللغة الشعرية من أجل التعبير عن الرؤى الإنسانية المتعددة التي تتراوح بين الحنين والوجد، والتأملات الفلسفية العميقة، في هذا المقال، سوف نتناول أبرز ملامح أسلوبه الشعري، وكيف يشتغل على بنية النصوص ليجعل منها مزيجاً من الفكرة والصورة والإيقاع.

المسار الشعري

ومن خلال أعماله، يمكن ملاحظة أن منذر حسن كان يسعى باستمرار إلى خلق مسارٍ شعري متفرد يمزج بين الانغماس في التفاصيل الدقيقة للأحاسيس والمشاعر الإنسانية، وبين الخوض في أبعاد أوسع تتعلق بالوجود والفكر.
إذا نظرنا إلى مجموعاته الشعرية بشكلٍ عام، نجد أن الشاعر يوظف تجاربه الحياتية الخاصة ليصوغ منها رؤى تتناول عوالم الحب والموت والروحانية. وفي هذا السياق، يبدو أن الشاعر يرفض الالتزام بنمط شعري ثابت، حيث يتنقل بين الأشكال الشعرية التقليدية مثل القصيدة الموزونة والتفعيلية، وبين شعر النثر الذي يتميز بالانسيابية والحرية التامة في التعبير.

التنوع الشعري

منذ بداية مسيرته الشعرية، يُلاحظ التنوع الواضح في شكل القصائد التي يكتبها منذر حسن. ففي مجموعة “شموخ السنديان” تظهر القصائد الموزونة بشكل جلي، حيث يُستخدم الوزن والقافية بشكلٍ مميز لخلق إيقاع موسيقي يجعل النص الشعري قريباً من الأذن ويسهّل فهمه. لكن هذا الشكل التقليدي لا يستمر طويلاً، إذ يبدأ الشاعر في مجموعاته التالية بالتوسع في استخدام الشعر الحر والتفعيلة، وفي بعض الحالات ينتقل إلى شعر النثر، وهو ما يعكس مرونة أسلوبه وقدرته على التفاعل مع مختلف الأساليب الشعرية.
لا يكتفي الشاعر هنا بالتمسك بنمطٍ واحد، بل يسعى إلى استكشاف حدود اللغة والتعبير الشعري. في قصيدة “الحبُّ كرمٌ من نُعاسٍ”، مثلاً، نجد أن الشاعر يتلاعب بالأشكال اللغوية والتعبيرية ليخلق نصاً شعرياً يتماوج بين السرد الشعري والتأمل الفلسفي، في هذه القصيدة، يزدوج الفعل الشعري مع الفكرة في صورة قد تبدو في البداية بسيطة، لكنها تحوي في طياتها تأملاً عميقاً في طبيعة الحب والوجود:
“الحبُّ كرمٌ من نُعاسٍ
غامرٌ، ليقتُلني دونه وسنٌ..
إمّا اعتصرناهُ معاً، ثمّي يُحييني.”
القصيدة هنا، رغم بساطتها الظاهرة، تحتوي على إيقاع موسيقي جميل يعكس الجهد الفني الذي بذله الشاعر في بناء الجملة الشعرية لتأخذ شكل تدفقٍ حيوي يمر عبر أفكار عميقة عن الحب والحياة والموت.

الصورة والتكامل البنائي

ما يميز نصوص منذر حسن هو اهتمامه البالغ بالبناء النصي وتكامل الصورة الشعرية. فالنصوص الشعرية عنده لا تأتي جزئية أو منفصلة، بل تتداخل الدلالات المختلفة لتُبنى وحدة فنية متكاملة. في العديد من نصوصه، يمكن أن نلحظ أن الشاعر يُوظّف المفردات بكامل وعيه واهتمامه، لتأخذ كل كلمة دلالاتها العميقة التي تُسهم في تطوير المعنى الكلي للنص.
وفي قصيدته “الزهرة البريّة”، على سبيل المثال، نجد الشاعر يوظف صورة الزهرة بطريقة رمزية للتعبير عن صفاء الروح وطهارة الطبيعة الإنسانية. لكن في الوقت ذاته، فإن استخدامه للمفردة “الزهرة” يعبّر عن فكرة أعمق عن الحياة والتجدُّد:

“الزهرة البريّةُ، لا تقطفُ الهواء، إلّا.. لتنجب النّدى.”
هنا، يتلاعب الشاعر بالصور الموحية لتُعبّر عن طبيعة الحياة التي تأخذ شكل دورة مستمرة من العطاء والعودة إلى الأصل. كما أن النص يوظف المجاز ليضفي بُعداً فلسفياً يعكس علاقة الإنسان بالطبيعة وتفاعلها المستمر معه.

التنصيص: المناكفة والتجديد

ومن أبرز الخصائص التي تميز شعر منذر حسن هو توظيفه للتنصيص، وهي تقنية يتم فيها “الاقتباس” أو “التنصيص” على نصوص أخرى، سواء كانت من التراث الشعري العربي أو من الكتب المقدسة أو حتى النصوص الفكرية. إلا أن تنصيصه لا يكون مجرد إعادة إنتاج حرفية، بل هو يُشكّل نوعاً من المناكفة أو الحوار مع النصوص القديمة لإنتاج شيءٍ جديد. هذه التقنية تمنح النص بعداً حداثياً، وتتيح للشاعر أن يُعيد تشكيل المعاني والمفردات لتواكب متطلبات العصر الحالي.
“لأنكِ
من خلعت عليه يقطينكِ
نحتاج قصاصكِ من حُبٍّ
ورمادكِ من صلوات.”
هنا، يدمج الشاعر بين فكرة الحب والروحانية، مستفيداً من “التنصيص” على بعض الرموز الدينية والروحانية، ليخلق نصاً يحملُ دلالاتٍ متعددة تتجاوز حدود المفهوم الديني إلى ما هو إنساني في أبعاده الروحية والفكرية. وتظهر هذه المناكفة في تفاعل الشاعر مع النصوص القديمة حيث يترك بصمته الخاصة على تلك الرموز.

القصيدة كمساحة للتأمل

الشاعر منذر حسن لا يقتصر على التمرد في الشكل فقط، بل هو متمرد في نظرته للوجود والواقع. القصائد التي يكتبها تتسم بمزج متوازن بين التأمل العميق في الحياة والموت، وبين تمرد على الصورة التقليدية للتفكير والشعر. في بعض الأحيان، تأتي قصائده وكأنها هجومٌ على المعايير الاجتماعية والوجودية التي تحد من حرية الإنسان في التعبير عن ذاته، بينما في أحيان أخرى، يقترب من الصوفية والفلسفة ليطرح أسئلة وجودية محورية عن الحب والعلاقات الإنسانية.
تصبحُ القصيدة بذلك أكثر من مجرد تعبير فني، فهي وسيلة لطرح الأسئلة الكبرى حول الحياة والموت، الحقيقة والمجاز. وفي هذا السياق، لا يتردد منذر حسن في أن يخلط بين الواقع والخيال، ليخلق نصوصاً تحتوي على قدرٍ كبير من الغموض، ولكن في الوقت نفسه تمنح القارئ شعوراً عميقاً بالانغماس في عوالمها.

شعر التجديد والتمرد

من خلال القراءة الدقيقة لنصوص الشاعر منذر حسن، يتبين لنا أنه لا يتقيد بنمط شعري واحد، بل يميل إلى التجديد والتمرد على كل الأشكال التقليدية. هو شاعر يؤمن بأن الشعر ليس مجرد نقل للأحاسيس والمشاعر، بل هو فعل فني يتم فيه التلاعب بالصور اللغوية والتقنيات التعبيرية لإنشاء نصوص تحتوي على عمق فكري وفني كبير. ومن خلال تنصيصاته، وتنوع أساليبه، وبحثه المستمر عن لغة جديدة، يبدو أنه قد استطاع أن يضع لنفسه مكانة خاصة في الشعر المعاصر، ويجعل من نصوصه مرآة تعكس هموم الإنسان وتطلعاته.

Leave a Comment
آخر الأخبار