الحرية – نهلة أبو تك:
بدأت غابات اللاذقية تظهر علامات التجدد الطبيعي بعد الحرائق الأخيرة، حيث برزت براعم جديدة من الأعشاب والشجيرات في بقايا الرماد، خصوصاً بعد هطول الأمطار خلال الفترة الماضية في جبال المحافظة، ما يعكس قدرة الغابة على استعادة غطائها النباتي تدريجياً، ومع ذلك يبقى الوقت قصيراً للحكم على التعافي الكامل، إذ تحتاج الغابات سنوات طويلة لتعود إلى حالتها الطبيعية. وفي تصريح لصحيفة الحرية، أكد الخبير في مجال الغابات والمراعي الدكتور أسامة رضوان أن ما نشهده اليوم لا يعدو كونه مؤشرات أولية للتجدد الطبيعي، وقال: الفترة التي لم تتجاوز الشهر على اندلاع الحرائق قصيرة جداً لتقييم قدرة الغابة على التعافي الكامل، وما نراه اليوم مجرد براعم وأعشاب صغيرة بدأت تظهر من بين الرماد، وبعض الأشجار المعمرة تحاول إخراج الشتلات الناشئة من جذورها أو جذوعها، وأضاف أن الغابة تحتاج سنوات طويلة، قد تمتد من خمس إلى عشرين سنة، لتعود إلى حالتها الطبيعية، وهذا يرتبط بشدة الحريق وطبيعة التربة ومدى تدخل الإنسان في برامج التشجير والعناية بالمنطقة، والأهم حماية الغابات المحترقة من العبث والسماح للشتلات الناشئة بالنمو، فهذا الأساس الذي يضمن استمرار التجدد الطبيعي. تتصاعد الضغوط على الجهات المسؤولة للبدء الفوري بعمليات التشجير بعد كل حريق، لكن هذا التدخل العشوائي قد يحمل في طياته مخاطر جسيمة، فزرع آلاف الغراس من دون تأمين مياه كافية يؤدي إلى موتها وخسارة الموارد، ويحذر الدكتور رضوان من إدخال أنواع غريبة أو أشجار مثمرة مكان الغابة الأصلية لأنها قد تحرم الغابة من هويتها البيئية وتجعلها أكثر عرضة للحرائق المستقبلية، ويشير إلى أن بعض الأنواع الوافدة مثل الأوكاليبتوس والباولونيا ولسان الطير تعد مضخات مائية تستنزف الموارد الجوفية وتشوه المشهد الطبيعي، بينما الأنواع المحلية كالسنديان والبلوط والغار والقطلب والبطم والخرنوب والصنوبر هي الضامن الحقيقي لهوية الغابة وذاكرتها البيئية. وتشير البيانات الميدانية إلى أن هذه الأنواع الدخيلة تستهلك كميات مياه تفوق ما يتوافر طبيعياً في مناطق الساحل السوري، فالأوكاليبتوس يحتاج ما بين 5000 إلى 10000 ملم من المياه سنوياً للهكتار الواحد، بينما الباولونيا يتطلب نحو 3450 ملم، في حين لا يتجاوز معدل الهطل السنوي في اللاذقية ألفاً ومئة مليمتر في أحسن الأحوال، ويقول الدكتور رضوان: هذا التفاوت يعكس خطورة التشجير غير المدروس، إذ يؤدي إلى عجز مائي واستنزاف للمخزون الجوفي ويقود إلى تدهور التربة وفقدان قدرة الغابة على تجديد نفسها، الأمر الذي يجعل من التشجير العشوائي جريمة بيئية مكتملة الأركان. قد يبدو التشجير الفوري وسيلة لاستعادة الغطاء الأخضر بسرعة، لكنه يحمل تكلفة اقتصادية باهظة، إذ يتطلب مشاتل واسعة ومياهاً وفيرة وكذلك أيدٍ عاملة مدربة، بينما يؤدي فشل الغراس في النمو إلى خسارة مزدوجة، ومن ناحية أخرى، الغابة ليست مجرد نظام بيئي بل تمثل ذاكرة جماعية للمجتمع المحلي حيث يعتمد السكان على الغابة في جمع الأعشاب والرعي والترفيه، لذلك يوصي الخبراء بضرورة إشراك المجتمع المحلي في برامج الحماية والتجدد من خلال حملات توعية وتدريب على أسس التعامل مع الغابة بعد الحريق، وتشير التجارب العلمية إلى أن الامتناع عن التشجير المباشر بعد الحرائق الكبرى مع إزالة الأشجار المحترقة وترك الطبيعة تعمل يمكن أن يؤدي إلى استعادة الغابات توازنها خلال سنوات قليلة، ويضيف الدكتور رضوان: التجارب الدولية تؤكد أن الصبر قد يكون أفضل سياسة، وأن الطبيعة تملك من الحكمة ما يفوق أحياناً قدرة الإنسان على التخطيط. ويشدد الخبراء على ضرورة وضع خطة شاملة تشمل إغلاق المواقع المحترقة لفترة زمنية مناسبة لحماية النباتات الصغيرة والشتلات الناشئة، وتقييم المحتوى المائي لكل منطقة، وتأهيل الكوادر الفنية وتوسيع المشاتل الحراجية لتأمين الغراس المحلية عند الحاجة، وتزويد المواقع بالبنى التحتية اللازمة كالطرقات الحراجية وخزانات المياه والآليات، إضافة إلى إشراك الجامعات والمراكز البحثية بوصفها مصدر خبرة وطنياً لصياغة سياسات بيئية رصينة. الغابة ليست مجرد مساحة خضراء بل هي الحارس الأخضر للحياة، النار جزء من ديناميكيتها منذ آلاف السنين، لكن الجهل البيئي واتخاذ قرارات متسرعة قد يحولها إلى ذكرى، كما يقول الدكتور رضوان: الأجدى أن نمنح الغابة فرصة لتجديد نفسها وفق أسس علمية بعد تطبيق الإجراءات الضرورية لحمايتها”، وبينما تثبت الطبيعة قدرتها على التعافي، يبقى دور الإنسان أن يكون حامياً واعياً، يوازن بين الصبر والعناية ليضمن استمرار الغابات في أداء دورها البيئي والاجتماعي.