الكاتب والمخرج السوري فارس الذهبي: جائزة الجمهور الفرنسي اعتراف بقدرة القضية السورية على لمس الوجدان

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- حسيبة صالح:
وصف الكاتب والمخرج السوري فارس الذهبي فوزه بجائزة الجمهور في فرنسا عن مسرحيته طيران فوق عالم قذر بأنه لحظة فارقة في مسيرته الفنية والإنسانية.
واكد الذهبي خلال حديثه لصحيفة «الحرية»، أن الجائزة لم تكن مجرد تكريم، بل اعتراف بأن القضية السورية، حين تُروى بلغة فنية صادقة، قادرة على أن تُلامس وجدان المتلقي الغربي، ويقول: «الجمهور لا يتفاعل مع القضية بوصفها ملفاً سياسياً بارداً، بل مع الحكاية حين تتحول إلى تجربة حيّة على الخشبة، تُجسّد الألم والأمل والكرامة».

تحوّل في الوعي واللغة

يشير الذهبي إلى أن تجربته المسرحية شهدت تحوّلاً جذرياً بين دمشق وباريس. ففي سوريا، كانت الكتابة فعل تحدٍّ داخل قفص الرقابة السياسية والاجتماعية، ومحاولة لفتح نافذة في جدار سميك. أما في فرنسا، فقد وجد نفسه أمام امتحان جديد: كيف يُحافظ على صوته وسط حرية فائضة وأصوات متعددة. ويتابع بالقول: “لم أعد مشغولاً بكسر الرقابة فقط، بل بخلق لغة مسرحية تلامس إنساناً في أي مكان.”
ويضيف أن أسئلته المسرحية أصبحت أكثر كونية، تتناول مفاهيم الحرية، الذاكرة، المنفى، والعدالة، وأن هاجسه في المهجر صار أن يُثبت أن المسرح السوري قادر على محاورة العالم بندّية فنية وحرّة.

مقاومة جمالية من قلب العتمة

وعن المسرحية الفائزة، يوضح الذهبي أنها ليست مجرد نص عن الخراب، بل محاولة للتحليق فوقه كفعل مقاومة جمالية، قائلاً: “العالم القذر هو الواقع المثقل بالاستبداد والحرب والفساد، أما الطيران فهو الفعل الفني، الخيال الذي يرفض الغرق في الوحل.” ويؤكد أن الكتابة كانت اختباراً صعباً: أن تبقى قريباً من العتمة دون أن تبتلعك، وأن تبحث في الوقت نفسه عن نافذة ضوء.

مونودراما شعرية

ويشرح الذهبي أن اختياره لصيغة المونودراما الشعرية كان خياراً جريئاً، يتطلب توازناً دقيقاً بين كثافة اللغة الشعرية وحيوية الأداء المسرحي: “كان عليّ أن أخلق لغة وسيطة شعرية قادرة على النفاذ إلى العاطفة، وفي الوقت نفسه قابلة للتجسيد، للحوار الداخلي، وللتحول إلى فعل مسرحي حي.” ويضيف أن المونودراما، بوجود ممثل واحد وفضاء محدود، تُعرض دائماً لخطر الرتابة، لكنه واجه هذا التحدي عبر تنويع الإيقاعات، واللعب بالصوت والجسد والإضاءة، ليبقى السرد نابضاً بالحياة.

مشروع مسرحي يتطور

وعن تطور مشروعه المسرحي، يقول الذهبي إن أعماله الأولى مثل ريح وشيزوفرينيا وليلى والذئب، وصولاً إلى مولانا التي جابت العالم، ثم طباخ روحه وزفرة السوري الأخيرة، تمثل انتقالاً من الاحتجاج المباشر إلى مساءلة أعمق للذاكرة والحرية والعدالة. ويضيف: “الخيط الرابط بين كل هذه الأعمال هو إيماني بأن المسرح فعل مقاومة ينتمي إلى القوة الناعمة التي نحتاجها، سواء ضد الاستبداد، أو ضد النسيان، أو ضد تحويل الإنسان إلى مجرد رقم.”

المسرح في مواجهة الاستبداد

ويؤكد الذهبي أن المسرح هو الفضاء الأكثر قدرة على مساءلة السلطة، لأنه يضع المتحكمين بالمجتمع أمام الجمهور مباشرة، ويجعل من الاستبداد شخصية عارية قابلة للنقد والسخرية. ويتابع: “المسرح يفتح باب التجريب على مصراعيه، ويمنح الجمهور فرصة لتصور الحرية الممكنة.”
ويشير إلى أن مسرحية زفرة السوري الأخيرة اشتغلت على فضح اللغة الدعائية، وتحويل الشعارات إلى مادة كوميدية حين تفشل في التطبيق، كاشفاً فراغ الاستبداد من المعنى، كما أعادت الاعتبار للذاكرة الجمعية عبر استعادة قصص الضحايا والمهمشين.

الثورة من عين فتاة

وفي حديثه عن طباخ روحه، يوضح الذهبي أنه اختار أن تُروى الثورة السورية من منظور فتاة، في خطوة فنية تحمل موقفاً أخلاقياً واضحاً: «شخصية لبنى ليست مجرد شخصية، بل رمز لجيل كامل حُرم من قول كلمته».
ويضيف أن صوتها على الخشبة يُقوّض الصمت المفروض على النساء، ويمنح الجمهور نافذة لرؤية الاستبداد من الداخل، من خلال من يُفترض أنه “الأضعف” اجتماعياً: «أن تُروى الثورة من خلال فتاة يعني أن الثورة ليست ملكاً للرجال فقط، بل هي مشروع شعب، حملت النساء جزءاً كبيراً من أعبائه ودفعن ثمنه مضاعفاً».

المسرح في زمن الشاشة

ويختم الذهبي حديثه بالتأكيد على أن المسرح لا يزال قادراً على التأثير في زمن هيمنة الصورة والشاشة، بل إنه الفضاء الوحيد الذي يُعيد الاعتبار للحوار الإنساني المباشر.
ويقول: «إن عاد المسرح فإن كل الفنون ستنتعش، ليس عبثاً أن يلقب المسرح بأبي الفنون.” ويضيف: “المسرح الحقيقي هو الذي تنمو فيه الفكرة في عقل المؤلف، ليبلورها المخرج مع ممثليه، وتتحول إلى أطروحة للنقاش والتفاعل».
بهذا التوجه، يواصل فارس الذهبي بناء مشروع مسرحي لا يكتفي بالعرض، بل يُمارس فعلاً ثقافياً وإنسانياً يعيد تشكيل الوعي، ويمنح المسرح السوري موقعاً عالمياً لا بوصفه فناً هامشياً، بل بوصفه شهادة حيّة على قدرة الإنسان على التحليق، حتى فوق أكثر العوالم قذارة.

Leave a Comment
آخر الأخبار