الحرية- جواد ديوب:
أيتها الكلماتُ، ماذا تريدين منّي؟ أيتها اللغةُ الرجراجةُ، الزئبقية، الشائكة، القاسية… كيف يمكنُ اصطيادُك؟
كلما جلست لأكتب تتفلّتُ الأفكار منّي مثل أرنب الحكاية وتختفي في قبعةِ الساحر، تتسرب الأبجدية حرفاً حرفاً من جُبّ عقلي مثل ماءٍ يتسرب من خزانٍ طوال الليل نقطةً نقطة.
تسألني إحدى زميلات هذه “المهنة/المطحنة/الصحافة”: لماذا “تسجِنُ” نفسكَ في حقل الكتابة الثقافية؟
أجيبها مبتسماً: بل على العكس تماماً! أنا “أحرِّرُ” نفسي من سجن المعيشيّ، أُسيّجُ روحي بالوردةِ والشِّعرِ والسينما، وأفتحُ عقلي للريح والغناء والموسيقا لكيلا أسمحَ للواقع بأن يحوّلني إلى “وحش”! أشعرُ أنني لو كتبتُ عن مشاكل الناس المعيشية مثل السكّر والسمنة والخبز وزيت القلي وهموم الإيجارات والطبابة ومدارس الأطفال كمن يتحولُ إلى “شرحة” بطاطا محروقة بنار الهموم، وأنّ دمي سيغلي مثل زيت محركات الباصات المهترئة، ويبدأ الدخان الأسود يتصاعد من دماغي كأن حمّى الكوكب استقرت فيه. وأحسُّ لو أنّي كتبتُ جملاً رومانسيةً غنائيةً محمولةً على هدهداتِ الشِّعر وقصص الروايات المخزونة في الكتب وغيماتِ الموسيقا وأكفّ الإيقاعات المرحة التي نشاهدها في النشاطات الثقافية، سأصبحُ حينها معزولاً عن الناس مثل مجنونٍ يغنّي في الطاحون؛ لا هو يسمعُ نفسه ما الذي يقوله، ولا الآخرون يفهمون عليه ماذا يفعل وماذا يريد!
إذاً، أيتها الكلماتُ الكلماتُ ماذا تريدين منّي؟ أيتها المفرداتُ العصيّةُ القصيّةُ المُتعِبةُ، أيتها اللغةُ اللعوبُ الغاويةُ كأنك لا ترضين إلا حين تمتصّين نسغَ أفكارنا حتى آخر شهقة! كأنك لا تستريحين على عرش سلطانك حتى نَشقى ونُدمى ويُغمى علينا من فرطِ التفكّر بكِ وبأحوالنا ومآلاتنا، كأنك تصلبينَ كتّابَكِ ومحبيكِ على جدار الوقت وتعذّبينهم بالأرقِ الأبديّ والتذمّر من كل شيء!
محاربة البشاعة!
لكن، هل تستطيع اللغةُ محاربةَ البشاعة؟ هل تستطيعُ أحرفُ الأبجدية تخفيفَ ألم الناس؟ هل تنفع الكتابة في قولِ الخوف والبؤس والخذلان المعشّش في نفوس البعض؟
تتشابك الأسئلة و”يهجِسُ” عقلي: وهل يمكن أن تخلو اللغةُ أصلاً من مفردات مثل البشاعة، المرض، الفقر، الكآبة، الحرمان، الانسحاق، الخذلان، الندم؟! هل تبقى اللغةُ صالحةً للعيش حينها؟ أي جنون سنحيا به فيما لو لم نستطع أن نتفوّهَ بأوجاعنا وأن نعبّرَ عما يسكن تحت جلدنا مثل الشوك أو تحت أقدامنا مثل كسراتِ الزجاج!
لكننا بشرٌ مصنوعين من الكلمات، بجمالياتها وقُبحها، بنبالتها وخِسّتِها، بعظمتها وتفاهتها، ولذلك وبسببه وعلى الرغم منه لا بدّ أن نختار “مَنْ نكون”… فيا أيتها الكلماتُ الحنونُ ترفّقي بنا، فنحنُ كائناتٌ لغويةٌ تقتاتُ على أحرفِ الأبجديّات كي نحمي أرواحنا من عضّات القهر، وقلّة الحيلة، وصقيع الملل. نحن كائناتٌ تحيا باللغة؛ كتبنا، ونكتبُ، وسنكتب كي نخفّفَ عن أنفسنا رعبَ الفناء، كي لا نموت مجّاناً.
اللغةُ العجوز!
أتأمّلُ وأكتبُ باللغةِ العجوزِ المهترئة من كثرةِ الاستعمال:
البحرُ/الوجعُ
الأحلامُ/الغابة
الرقصُ/اللامبالاة
الهمّةُ/الطريقُ
النهرُ/الأفكار… اللعِبُ/الارتكاس
الأصدقاءُ/الطريقُ
العادةُ/الانغلاق
وأفكّر: هي الكلماتُ إذاً حِيلٌ سحريةٌ صغيرةٌ نقولُ عبرها اختلافنا لنكونَ ما نحْنُ عليه. في القلب شيءٌ اسمُهُ الرغبةُ، والعقل المشغول بصياغة أسئلته المفزعة لا يكفّ عن الوقوع في فضائلِ العزلة. السعادةُ كيمياءٌ خطرة، والفرحُ معادلةٌ رياضيةٌ مدهشةٌ… أمّا الحبُّ فهو كاللغة؛ حِيلةٌ صغيرةٌ نقول بها اختلافَنا وما نتشوّقُ لأن نصبحه في هذه المتاهة العتيقة التي نسمّيها اعتباطاً: حاءٌ ياء ألِفٌ وتاء!.