الحرية – بشرى سمير:
في أحياء دمشق القديمة حيث حجارة أصيلة تروي قصص قرون مضت تنتشر ظاهرة تستحق الوقوف عندها وهي تحويل المنازل التراثية إلى مطاعم ومقاهٍ.
وقد أصبح “بيت جبري” الذي تحول إلى مجمع للمطاعم نموذجاً بارزاً لهذه الظاهرة التي تثير تساؤلات حول مصير تراثنا المعماري وهويتنا الثقافية.
فقد كان بيت جبري في الأصل منزلاً تقليدياً دمشقياً يعود للقرن الثامن عشر، يمتاز بفنائه الداخلي (الإيوان) والنوافير والأقواس والأسقف المزخرفة التي تعكس روعة العمارة الشامية.
تحول هذا البيت التاريخي إلى مجموعة من المطاعم والمقاهي التي تستقطب السياح والزوار المحليين، وبينما يُشيد البعض بهذا التحويل كوسيلة لإنقاذ المبنى من الإهمال، يرى آخرون أنه يشكل تهديداً للقيمة الأصيلة للمكان.
باحث تاريخي: لا بد من تشريعات صارمة للحفاظ عليها من التشويه
تحف معمارية
وبين الباحث التاريخي الدكتور عماد سعيد أن المنازل الدمشقية القديمة تعد تحفاً معماريةً تروي قصصاً عن تاريخ دمشق العريق بفنائها الواسع ونوافيرها الرخامية وزخارفها الإسلامية وأروقتها المزينة بالزركش ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية شهدت السنوات الأخيرة تحويل العديد من هذه المنازل إلى مطاعم وفنادق، وغالباً ما تتطلب التحويلات التجارية إدخال تعديلات معمارية كتوسعة المداخل وإضافة مرافق غير ملائمة وتغيير التقسيم الداخلي، ما يشوه القيمة المعمارية الأصلية في بعض الحالات يتم إجراء تعديلات غير مدروسة على التصميم الأصلي للمنزل لتلبية المتطلبات التجارية مما يفقده قيمته التاريخية والمعمارية فإضافة عناصر حديثة أو توسيع المساحات على حساب التصميم الأصلي يُضعف أصالة المكان.
استغلال مفرط
وأضاف الباحث في تصريحه لـ”الحرية” إن التحويل هذه المنازل إلى مطاعم يؤدي إلى استغلال مفرط يهيمن عليه الجانب الاقتصادي على حساب القيم الثقافية والتاريخية.
ولفت سعيد إلى أن مؤيدي هذا التحويل بأنه يمثل حلاً عملياً لإنقاذ المباني التراثية من الإهمال والاندثار، خاصة في ظل نقص التمويل الحكومي لصيانتها. كما أنهم يشيرون إلى الجدوى الاقتصادية والسياحية لهذه المشاريع.
لكن هذا الدفاع يتجاهل حقيقة أن الحفاظ على التراث لا يعني فقط الحفاظ على الحجار بل الحفاظ على الروح والمعنى والوظيفة التي تجسد الهوية الثقافية.
فتحويل منزل تراثي إلى مطعم يحوله من شاهد حي على تاريخ مجتمع وثقافة إلى مجرد ديكور تجاري، مؤكداً أن هذه الأماكن تجذب السياح الراغبين في تجربة الأصالة الدمشقية، مما يسهم في تنشطة الحركة السياحية واقتصاد المدينة. فالشعور بالجلوس في فناء منزل دمشقي قديم يتناغم مع نغمات الموسيقى العربية ورائحة المأكولات الشامية يمنح الزائر تجربة فريدة، كما أسهمت هذه المطاعم والفنادق بتوفير فرص عمل للسكان المحليين في مجالات مختلفة من الخدمة إلى الإدارة مما يدعم الاقتصاد.
مشاريع تجارية
ولم ينف سعيد أن تحويل المنازل القديمة إلى مشاريع تجارية أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات في الأحياء القديمة، مما دفع العديد من العائلات للانتقال إلى مناطق أخرى بسبب ارتفاع الأسعار أو الإيجارات وفقدان هذه الأحياء لطابعها السكني التقليدي.
ولم يغفل سعيد ما تسببه وجود هذه المطاعم من ازدحام وتحول الأحياء الهادئة إلى مناطق مزدحمة بسبب حركة الزبائن والموظفين، مما يسبب إزعاجاً للسكان المتبقين ويتسبب في مشاكل مثل نقص مواقف السيارات والتلوث السمعي.
تطوير تشريعات صارمة
وأكد الدكتور سعيد أنه لحماية تراثنا المعماري لا بد من تطوير تشريعات صارمة تحدد شروط استخدام المباني التراثية وتحول دون تشويهها.
وتوفير حوافز لمالكي المباني التراثية للحفاظ عليها في وظيفتها الأصلية أو في وظائف متوافقة مع طبيعتها إضافة إلى ضرورة إشراك المجتمع المحلي في عملية الحفاظ على التراث واتخاذ القرارات المتعلقة به وتوعية المستثمرين بأهمية الحفاظ على القيم المعمارية والثقافية وليس الشكل الخارجي فقط.
سلاح ذو حدين
مبيناً أن تحويل المنازل الدمشقية إلى مطاعم وفنادق يمثل سيفاً ذا حدين. فمن ناحية، هو وسيلة فعالة للحفاظ على التراث وتعزيز الاقتصاد ومن ناحية أخرى يحمل مخاطر تشويه هذا التراث وإفراغه من مضمونه الاجتماعي لذلك من الضروري وضع ضوابط صارمة من قبل الجهات المعنية لضمان الحفاظ على أصالة هذه المنازل مع تحقيق توازن بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يمكننا أن نضمن أن تبقى هذه البيوت شاهداً حياً على عراقة دمشق لا مجرد صورٍ جميلة في ذاكرة الزمن.
من جهته محمود السيروان، دليل سياحي، يرى أن هذه الظاهرة لم تقتصر على دمشق فقط، بل انتشرت في العديد من المدن القديمة حول العالم، لكن ما يميز دمشق هو تاريخها العريق وخصوصية تراثها الثقافي والمعماري، الذي يعكس تنوع الحضارات التي مرت على المدينة.
المطبخ السوري
عند دخول أي مكان من هذا النوع، يشعر بانطباع مختلف، يوضح السيروان، فالأجواء تختصر بشكل فريد عبق الماضي مع لمسات الديكور العصري التي تساهم في خلق جو مريح ومرحب. غالباً ما تكون المطاعم داخل هذه البيوت مزينة بشكل يعكس تراث المدينة، مع إبراز العناصر التقليدية بطريقة حديثة، بحيث يتناسب التصميم مع الطابع التاريخي دون أن يكون مقيدًا أو جامدًا.
بالإضافة إلى ذلك، يتم تقديم الأطباق السورية الأصيلة، التي تعكس تراث المطبخ السوري وتنوعه، .وجود المطاعم داخل البيوت القديمة هو بمثابة عمل فني حي، حيث يتم دمج التراث الثقافي والمعماري مع خدمة عالية الجودة، ليصبح المكان نقطة جذب سياحية وتاريخية، ومصدر فخر للمجتمع المحلي.
كما أن هذه المشاريع تساهم في دعم الحرفيين والفنانين، من خلال استثمار الأيدي العاملة في الترميم، وتوفير فرص عمل من خلال إدارة المطاعم وتقديم الخدمات فيها.
فعاليات ثقافية
وفي سياق الحفاظ على التراث، وفقاً لـ”السيروان”، تلعب هذه المطاعم دوراً هامًا في نشر الوعي بأهمية الحفاظ على المعالم التاريخية، وتعزيز السياحة الثقافية. إذ يمكن للزائر أن يستمتع بوجبة شهية وهو يكتشف تاريخ المدينة، أو يتعرف على تفاصيل العمارة التقليدية، ويشاهد الحرف اليدوية والصناعات التقليدية التي تتعلق بتراث دمشق الحضاري.
على الجانب الاقتصادي، فإن تحويل البيوت القديمة إلى مطاعم يعزز من الاستثمار في القطاع السياحي، ويشجع على تنظيم فعاليات ثقافية وفنية داخل هذه الأماكن، مما يضيف بعدًا ثقافيًا وترويجيًا لعراقة المدينة.
كما أن وجود مثل هذه المطاعم يسهم في تنشيط الأسواق المحلية، وتعزيز القطاع التجاري في المناطق القديمة، ما يخلق فرص عمل ويساهم في إحياء الأحياء ذات الطابع التاريخي.