الهيمنة الخوارزمية تخترق السيادة الرقمية

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية – حسين الإبراهيم:

  • ماذا تعني السيادة الرقمية في عصر تسيطر عليه الخوارزميات وشركات التكنولوجيا العالمية؟
  • كيف تتحول أدوات جمع البيانات وتحليلها إلى قوة قهر معرفي تستبدل حرية الاختيار؟
  • أين تكمن نقاط الضعف الحقيقية في البنى التحتية الرقمية التي تجعلنا عرضة للاستعمار الرقمي الجديد؟

الخوارزميات في جوهرها هي مجموعات معقدة من التعليمات البرمجية التي تحدد كيفية معالجة البيانات واتخاذ القرارات الرقمية بسرعة وكفاءة.. لكنها ليست مجرد أدوات تقنية محايدة تُشغّل بالبرمجة.. بل تعكس في تصميمها هندسات تجارية وسياسية وثقافية توجه سلوكها ونتائجها
تعتمد الخوارزميات على نماذج تحليلية متطورة تُسمى “نماذج التعلم الآلي” حيث تُدرّب على كميات هائلة من البيانات بهدف اكتشاف أنماط وسلوكيات المستخدمين.. هذه البيانات تشمل معلومات شخصية، تفضيلات، عادات تصفح، تفاعلات اجتماعية، وحتى محتوى مولّداً من المستخدمين. يتم تصنيف هذه البيانات، تنظيمها، وربطها لتشكيل “ملفات تعريف رقمية” دقيقة لكل مستخدم، تسمح بتخصيص المحتوى والإعلانات بشكل فعال لإبقائه مشغولًا ومتفاعلًا.
بالتالي، تصنع الخوارزميات ما يشبه «آلة إنتاج المعنى» الرقمية، تتحكم ليس فقط بالمعلومات التي تصل إلى المستخدم، بل بطريقة فهمه وتفاعله مع العالم، وهذا التأثير يمتد إلى تشكيل ذاكرته الجماعية وهويته السياسية والاجتماعية، حيث تُعيد إنتاج أنماط الهيمنة في شكل رقمي جديد، ما يعزز تأثير الشركات الكبيرة ويُعيق قدرة المجتمعات على التحكم بمصيرها الرقمي.

تجربة أوروبا بين الحماية والحدود…

اتجهت أوروبا إلى استعادة هامش من السيطرة عبر تشريعات مثل حماية البيانات ومبادرات بنية تحتية مثل مشاريع السيادة السحابية، هذه السياسات صممت لخفض تبعية الدول لمزودي خدمات أجنبية وإعادة أسعار الخدمات الرقمية إلى قواعدها السياسية والقانونية، لكنها في الآن نفسه تكشف حدودًا: حواجز تطبيقية، اعتمادًا تقنيًا متجذرًا، وصعوبة تصدير حلول قائمة على بنى مؤسسية مستقرة إلى سياقات تعاني احتلالًا أو فقدان سيطرة على البنية التحتية الفعلية.
تحول النفوذ الخوارزمي إلى استعمار رقمي
التحول من نفوذ إلى استعمار رقمي يحدث عندما تتقاطع ثلاثة عناصر: احتكار تقني دولي أو بواسطة الشركات الكبرى، سيطرة طرف ثالث على البنية التحتية المادية للشبكات، وغياب أطر وطنية تحمي الحقوق الرقمية والقدرة على توجيه السياسات.. في مثل هذه الظروف تصبح البيانات أرضًا قابلة للاستخراج، وبالتالي إعادة إنتاج علاجات معرفية وسياسية تُهمِّش الفاعلين المحليين وتقيّد إمكاناتهم على التنظيم الذاتي والمقاومة.

خصوصية سياقات دول العالم الثالث…

في سياقات مثل تلك التي تعتمدها دول العالم الثالث، حيث تُقيّد السيطرة المادية على البنية التحتية وتُعقّد حرية الاتصال، تتفاقم هشاشة السيادة الرقمية، ويكون الاستنساخ الحرفي للنماذج الأوروبية غير مجدٍ، لأن البيئة السياسية والبنيوية مختلفة، المطلوب هو استخلاص عناصر من القوانين والممارسات الأوروبية ـ حماية البيانات، شفافية الخوارزميات، بنى تخزين محلية ـ وإعادة تصميمها بشكل يتناسب مع قيود الاستعمار المادي واحتياجات المجتمع المدني والصحافة المستقلة.

الإغراء بديل للقمع..

لا تعتمد الهيمنة الخوارزمية على آليات القمع المباشر فحسب، بل تنتشر أساساً عبر إغراءات مغلَّفة براحة المستخدم وخدماته المجانية. فتقدم المنصات الكبرى نفسها كبوابات للترفيه، التواصل، والمعرفة، بينما تخفي وراءها نموذج أعمال قائماً على استخراج البيانات وتسليع الانتباه، هذا “الاستعمار بالإغراء” يخلق تبعية طوعية يصعب كسرها، حيث يقايض المستخدمون سيادتهم الرقمية مقابل خدمات فورية ووهم المجانية، ينتج عن هذه المقايضة غير المتكافئة تنازل تدريجي عن الخصوصية، الاستقلالية، والقدرة على اتخاذ القرار المستقل، ليصبح المستخدمون سلعاً في سوق الانتباه، ومنتجين مجانيين لبيانات تتحول إلى رأس مال في يد شركات التكنولوجيا.

مقومات السيادة الرقمية

تتطلب الاستجابة الفعّالة للهيمنة الخوارزمية مزيجًا تكامليًا من إجراءات بنيوية وقانونية وتقنية ومجتمعية، تبدأ ببناء قدرات محلية عبر دعم مراكز بيانات مجتمعية، وتطوير شبكات لا مركزية، واعتماد برمجيات مفتوحة المصدر لتقليل الاعتماد على مزودين خارجيين، يتبع ذلك صياغة تشريعات متدرجة لحماية البيانات تراعي القيود العملية والسياسية، مع آليات تطبيق مرحلية مدعومة بشراكات وتحالفات دولية، بالتوازي، يجب تعزيز شفافية الخوارزميات ومساءلة المنصات من خلال أدوات فحص مستقلة تمكّن الصحافة والمنظمات المدنية من كشف التحيّزات وقياس تأثيرها على الخطاب العام. كما ينبغي تمكين الإعلام المدني عبر برامج تدريب متخصصة في الاستدلال الرقمي، أمن الاتصالات، واستراتيجيات المقاومة الرقمية. أخيرًا، يتعين بناء تحالفات دولية واستراتيجية ضغط تربط المطالب المحلية بجهود عالمية للدفاع عن الحقوق الرقمية ورفع تكلفة انتهاكات مزودي التكنولوجيا.

دعوة للعمل..

ليست الهيمنة الخوارزمية مجرد تهديد تقني؛ بل هي اختبار لمدى قدرة المجتمعات على الدفاع عن حقها في إنتاج المعنى وتحديد مستقبلها، إن لم تبن أطراً سياسية وبنيوية مرنة، فإن التحوّل إلى شكل من أشكال الاستعمار الرقمي ليس احتمالًا بعيدًا بل نتيجة منطقية لمسارات السلطة الحالية.

Leave a Comment
آخر الأخبار