سوريا بعد عام على التحرير.. تأسيس دولة جديدة أم مجرد بداية طريق؟

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية – أمين سليم الدريوسي:

مرّ عام على سقوط النظام السابق في سوريا، وسط تحوّل إستراتيجي غير مسبوق في المشهد السياسي والأمني والاقتصادي، لم يكن «التحرير» مجرد حدث عسكري، بل أصبح محطة فاصلة لإعادة بناء الدولة على مختلف الصعد، وسط تحديات جسيمة وفرص محدودة، لكنها واعدة.
خلال هذا العام، بدا واضحاً أن استعادة السيادة لم تقتصر على رفع العلم فوق الأرض المحررة، بل كان بداية مسار طويل لإعادة تثبيت السيادة على المستويات الإدارية والأمنية والقانونية، فبعد سنوات من الانقسام وفقدان السيطرة على الحدود والمعابر، شكّل العام الأول من التحرير محطة لإعادة الإمساك بمفاصل الدولة، حيث عادت السلطة المركزية لتفرض حضورها على المنافذ البرية والجوية والبحرية، بما يعني استعادة القدرة على ضبط حركة التجارة والعبور، وإعادة تنظيم العلاقة مع الجوار وفق قواعد القانون الدولي.
لكن السيادة لا تُختزل في السيطرة الأمنية وحدها، بل تتجلى في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أسس قانونية حديثة، هذا التحول يعني الانتقال من مؤسسات مثقلة بالبيروقراطية والفساد إلى مؤسسات قادرة على إدارة الموارد بكفاءة، وتقديم الخدمات للمواطنين بشفافية، وربط الأداء الإداري بمساءلة واضحة، فالعام الأول شهد خطوات أولية في هذا الاتجاه، مثل إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية لتكون أكثر خضوعاً للقانون، وإطلاق مشاريع لإصلاح الإدارة المحلية بما يضمن مشاركة أوسع للمجتمع في صنع القرار.
الأهم أن استعادة السيادة لم تعد مجرد شعار سياسي، بل أصبحت ممارسة يومية تُقاس بمدى قدرة الدولة على حماية حدودها، إدارة مواردها، وضمان حقوق مواطنيها، وهنا تكمن دلالة التحرير، بأنه لم يقتصر على إسقاط حكم الأسد، بل فتح الباب أمام إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تجعل السيادة فعلاً حياً يتجسد في كل مؤسسة وكل قرار.

استعادة السيطرة وخطوات نحو إصلاح دستوري

فعلى الصعيد السياسي ومنذ سقوط النظام السابق في كانون الأول 2024، بدأت الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع في استعادة السيطرة على أغلب الحدود والمعابر الحيوية، باستثناء بعض المناطق في شمال حلب وشرق دير الزور ومحافظة الحسكة، التي لا تزال تحت سيطرة قوات «قسد» مدعومة خارجياً، وتمكّنت السلطات من توحيد جزء كبير من الجغرافيا السورية، وفرضت سلطة الدولة على مناطق جديدة، ما أعاد فتح ملفات التنمية والسياسة الخارجية.
وأعلنت الحكومة الجديدة عن خطوات أولية نحو إصلاح دستوري، ووعدت بإجراء انتخابات تشريعية في المستقبل القريب، كجزء من خطة لتعزيز الشرعية والمشاركة الشعبية، كما بدأت عملية إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، وربطها بالكفاءة والجدارة، وفقاً لما أكده خطاب الرئيس الشرع أمام الأمم المتحدة، حيث قدّم سوريا كفرصة جديدة للاستقرار بعد عقود من الأزمات.
وخلال العام الأول من التحرير، كان الإنجاز الأبرز لسوريا في ملف العقوبات هو إعادة طرح القضية دولياً بشكل مباشر وربطها بالشرعية السياسية الجديدة والانفتاح الخارجي.
لقد قدّمت الحكومة برئاسة الشرع هذا الملف كأولوية في خطابها أمام الأمم المتحدة، مؤكدة أن العقوبات تكبّل الشعب وتصادر حريته، وطالبت برفعها بشكل كامل.
أما وزارة الخارجية فقد كان دورها في هذا السياق أنها كثّفت اتصالاتها مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وطرحت رفع العقوبات كشرط أساسي لبناء شراكات اقتصادية ودبلوماسية جديدة، ورغم أن العقوبات لم تُرفع بالكامل بعد، إلّا أن الإنجاز يتمثل في كسر العزلة السياسية وفتح النقاش الدولي حول جدوى استمرارها، مع تحقيق بعض التخفيف الجزئي عبر تسهيلات إنسانية وزيادة التعاون في مجالات الغذاء والطاقة.
بهذا المعنى، تحوّل ملف العقوبات من قضية مجمدة إلى محور تفاوضي مفتوح، وأصبح جزءاً من مسار إعادة الإعمار والاستقرار الداخلي.

مؤشرات تحسن وحاجة ماسة للإعمار

وعلى الصعيد الاقتصادي، قبل التحرير كان المشهد الاقتصادي عنوانه الانهيار، تضخم متسارع، انهيار البنية التحتية وغياب الاستثمار، أما خلال العام الأول فقد بدأت مؤشرات التحسن بالظهور، أبرزها استقرار نسبي في سعر الصرف، تشغيل بعض محطات الكهرباء، وانتعاش محدود في الزراعة والصناعات الغذائية.
وأسهم تخفيف العقوبات والانخراط الدبلوماسي في توفير بيئة أولية للتعافي، حيث أجرت الحكومة الجديدة أكثر من 330 اتصالاً خارجياً بين كانون الأول 2024 وشباط 2025.
وتشير تقارير إلى أن سوريا تمتلك نقاط قوة يمكن البناء عليها، مثل الأراضي الزراعية الخصبة التي تشكل نحو 32% من مساحة البلاد، والموارد البشرية الشابة، والموقع الجغرافي الإستراتيجي، لكن التحدي الأكبر يبقى في وضع خطة إعمار مرحلية وبيئة أعمال شفافة لجذب الاستثمارات وتحقيق نمو مستدام، كما تؤكد تقارير صندوق النقد الدولي ووسائل إعلام عربية وجود خارطة طريق للإصلاحات، مع تقديرات لتكلفة إعادة الإعمار تقارب 400 مليار دولار، وتظهير لمخارج اقتصادية قد تقود إلى استعادة الربط التجاري الإقليمي، خصوصاً مع دول الخليج وتركيا، وهو ما ناقشته تغطيات قناة الجزيرة والبوابات الاقتصادية العربية، كما تشير تقارير إلى وجود مبادرات إقليمية محلية تدفع باتجاه تعزيز الاستثمار والشراكات.

عودة النازحين وتحسين الخدمات

اجتماعياً، قبل التحرير، كان النزوح والتهجير أبرز ملامح المشهد، واليوم بدأت عودة تدريجية للنازحين إلى مناطقهم الأصلية، بدعم من مشاريع سكنية وخدمات أساسية، وسط تحسن ملحوظ في السلم الأهلي، وعودة بعض المدارس والمستشفيات للعمل، مدعومة بمبادرات شعبية مثل «أربعاء حمص» «فداء لحماة» و«وفاء إدلب» وغيرها من المبادرات التي تركز على إعادة الإعمار خارج الإطار التقليدي.
كذلك أطلقت مشاريع سكنية أولية وخدمات أساسية، مع تحسن في السلم الأهلي والتعليم والصحة، فعلى سبيل المثال، خصصت 12 مليون دولار لمشاريع بنية تحتية في شمال إدلب، أما أزمة السكن، فهي خانقة مع ارتفاع إيجارات المنازل، لكنها تتطلب إصلاحاً أعمق لمعالجة احتياجات ملايين العائدين، كما أكدت تقارير عن حاجة ملحة لإسكان اللاجئين قبل تنفيذ خطط إعمار كبرى.
لكن التحديات الاجتماعية كبيرة، خصوصاً في مجالي التعليم والصحة، وفي تعزيز الثقة بين مختلف مكونات المجتمع السوري، إضافة إلى مواجهة محاولات زعزعة الاستقرار عبر الإرهاب والانقسامات، ورغم أن السلم الأهلي شهد تحسناً نسبياً بفضل مبادرات محلية، إلّا أنه ما زال بحاجة إلى إطار وطني جامع يجرّم خطاب الكراهية ويعزز الهوية الوطنية، بما يضمن استدامة الاستقرار ويحول دون عودة التوترات.

إعادة تنظيم الأجهزة وخطوات نحو استقلال القضاء

على الصعيد الأمني والقانوني، بدأت الحكومة الجديدة في إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلتها وتدريبها على أسس قانونية، وحصر السلاح بيد الدولة، وملاحقة مجرمي النظام السابق، واعتقال أفراد شبكات تهريب المخدرات والأسلحة، كما شهدت الحدود اشتباكات متكررة، ما يعكس استمرار التحديات الأمنية.
أما على الصعيد القانوني، فقد بدأت خطوات أولية نحو استقلال القضاء ومكافحة الفساد، وتم الإعلان عن لجان ثلاثية لمراقبة تنفيذ الاتفاقيات، وغرف عمليات مشتركة لتنسيق الخطوات التنفيذية، مع التزام بإطلاق سراح المحتجزين وتسريع عمليات تبادل الأسرى بإشراف الصليب الأحمر.

من التأسيس إلى الإنجازات الملموسة

يُعدّ العام الأول من التحرير مرحلة تأسيسية وضعت الأسس لمسار جديد يربط التحرير العسكري بالتحول المؤسسي والانفتاح المدروس على الجوار.
أما العام القادم فيجب أن يكون عام التحول العملي، لضمان أن التحرير لا يكتمل فقط بتحرير الأرض، بل بتحرير الإنسان والموارد من قيود الفساد والانقسام، وتبرز الأولويات في تثبيت الاستقرار الاقتصادي عبر خفض التضخم وضبط سعر الصرف، وإطلاق خطة إعمار مرحلية تستهدف إعادة تشغيل 40% من البنية التحتية خلال فترة زمنية قصيرة، إضافة إلى ضمان عودة آمنة ومدعومة للنازحين، مع جدول زمني واضح للانتخابات والإصلاحات السياسية والدستورية، وتعزيز الشفافية عبر تقارير إنفاق فصلية ومؤشرات أداء للبلديات.
لقد شهدت سوريا خلال العام الأول بعد التحرير تحولات تأسيسية على مختلف الصعد، من استعادة السيطرة السياسية والانفتاح الدبلوماسي، إلى بوادر التعافي الاقتصادي وجهود إعادة الإعمار، وعودة النازحين وتحسين الخدمات، وصولاً إلى إصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية.
هذه الإنجازات، وإن كانت أوليه لكنها أولوية، تضع الأسس لمستقبل أفضل، لكنها تتطلب تضافر الجهود المحلية والدولية لتحقيق الاستقرار والعدالة الاجتماعية.
إن مسار إعادة بناء سوريا طويل وشاق، لكنه يحمل الأمل في مستقبل يليق بتضحيات الشعب السوري.

 

 

Leave a Comment
آخر الأخبار