الحرية – مركزان الخليل:
منذ عقود مضت والحكومات السورية المتعاقبة تبحث عن الاكتفاء الذاتي، لتأمين حالة اقتصادية عنوانها “الأمن الغذائي” وفي حقيقة الأمر نجحت في الكثير من المواقع، وأخفقت في مواقع أخرى، ميدان الغذاء حققت فيه وفرة في الكثير من مكوناته، والتصنيع أيضاً حققت نجاحات مهمة، على مستوى الإنتاج، فكانت الوفرة منها، وصل بعض أجزائها لأكثر من 80 دولة، بعد كفاية السوق المحلية منها، لكن هذا الاستقرار، أو ما نسميه الاكتفاء الذاتي، كان في حالة تذبذب في الوفرة، وهذا ارتبط بالحالة المناخية، والسياسية للبلد، ناهيك بأخطاء الحكومات المتعاقبة، في تطبيق سياسات زراعية وصناعية، تؤسس لاستمرارية، وديمومة القطاعات الإنتاجية في تأمين المطلوب، دون تجاهل حالة الفساد، وتفضيل المصالح الشخصية على العامة، الأمر الذي أدى إلى تراكمات الفشل في الكثير منها، إلى أن وصلنا إلى الخطوط الحمراء في العمل، لا بل تم تجاوزها، بدليل تراجع إنتاجية المحاصيل الزراعية، ومتمماتها التصنيعية، في مقدمتها القمح الذي تراجعت إنتاجيته، إلى ما دون نصف مليون طن في الدورة الإنتاجية، بدلاً من خمسة ملايين طن، وهذا ينطبق على معظم المحاصيل والمواسم الإنتاجية.
بحاجة إلى أجوبة
هذا الواقع يفرض الكثير من الأسئلة والتساؤلات المهمة، حول التحديات الكثيرة، أمام تحقيق استمرارية ما تبنته الدولة، من خطوات لتحقيق الأمن الغذائي السوري، خلال السنوات الماضية، منها مناخية وطبيعية، وسياسية وأخرى تتعلق بطبيعة الاستهلاك الغذائي، وغيرها من تساؤلات تدور حول الخطوات الواجب اتباعها لتأمين الحد المعقول من الاكتفاء الذاتي، وصولاً إلى الأمن الشامل..؟
بعض السياسات الخاطئة للحكومات المتعاقبة وتجاوز الفساد للخطوط الحمر أدى إلى فشل منظومة الأمن الغذائي وتدمير كل مكوناتها الإنتاجية والتصنيعية
وأيضاً الموارد المائية حالياً هي من أكبر المعوقات، والسؤال هنا كيفية الاستثمار في هذا المجال، للاستفادة من الموارد المائية المتوافرة في البلاد، والأهم ما دور رؤوس الأموال في تحقيق الأمن الغذائي السوري ..؟
تأثيرات سلبية
الخبير الاقتصادي “محمد جغيلي” يحمل بعض الإجابة حول القضايا المطروحة، والأسئلة التي يحتاجها كل مواطن، حيث قال في بداية حديثه لصحيفتنا “الحرية”: نحن نمتلك الإجابة عن سؤال ليس بالحجم القليل، ولا بالمستوى الضيق، بل يمتد على مساحة وطن، لاعتبارات كثيرة في مقدمتها “أنه أمن الوطن والمواطن”.. ومن خلال خبرتي التي تمتد على مدى أربعين عاماً في المؤسسات الاقتصادية والزراعية العامة، سوريا قبل الأحداث المؤلمة منذ العام 2011 والحرب التي عاشتها خلال الفترة المذكورة وما بعد، كان الإنتاج الزراعي يتأثر سلباً بتداعيات ما يحصل بصورة أولية، ومن ثم القطاع الصناعي، بنفس التأثير وربما أكثر، وخاصة المرتبطة بالصناعات الزراعية، حيث تم تدمير مؤسسات البنى التحتية كمؤسسة إكثار البذار، والسدود التي تخزّن المياه، وفقدت سورية معظم الأراضي المنتجة، وخاصة في الشمال، وشمال شرقي الفرات، أي ما يزيد على 50% من مساحة سورية، ذات الأرض الخصبة والصالحة للزراعة، والتي كانت مسرحاً واسعاً لأعمال الحرب.
“جغيلي”: عوامل كثيرة أسهمت في تراجع الإنتاجية الزراعية والصناعية المرتبطة بها، تدمير المؤسسات والسدود، وخروج الشمال من الخطة والعائدية، والنتيجة فقدان 50% من المساحة وقوة الإنتاج المحلي.
وأعاد جغيلي الذاكرة إلى الوراء قليلاً ليؤكد أن سوريا قطعت أشواطاً كبيرة في تحقيق الأمن الغذاء، إلى جانب تصدير معقول من المنتجات الزراعية إلى الأسواق الخارجية، دون التوقف عن البحث عن الأسواق الجديدة، إلى أن جاء العام 2011، وتبدل معها كل شيء، وبدأت التأثيرات السلبية تفرض حالها كأمر واقع صعب، على كل القطاعات الخدمية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وغيرها.
والحالة تفرض نفسها اليوم وبقوة على أرض الواقع، وتكمن في ضرورة دعم الإنتاج الزراعي حتى بصورة مستمرة، وخاصة أنه من المعلوم أن الإنتاج الزراعي ليس بالربحية المطلوبة، لذلك تلجأ الدول المتقدمة إلى دعم الإنتاج الزراعي، من أجل استمرار عمليات الإنتاج التي تحقق بدورها الأمن الغذائي.
البوصلة ومحركها الأساسي
وبالتالي حتى نعيد البوصلة باتجاه تحقيق الأمن الغذائي السوري، وتطوير مكوناته، لا بد من توفير كل المستلزمات المطلوبة التي تدعم العملية الإنتاجية، وبصورة مستمرة، من أسمدة، ومحروقات، وأدوية زراعية، وآليات، والأهم توفير القروض الميسرة لدعم المنتجين، وبالتالي هذا الأمر يتطلب عملاً لا يقل عن خمس سنوات، لإعادة إنتاج أصول نباتية وحيوانية جيدة من حيث المورثات الإنتاجية وصفاتها، إضافة إلى ترميم السدود القائمة، التي تأثرت بالحرب، وتقديم كل أشكال الدعم للفلاح، باعتباره محرك البوصلة الأساسي باتجاه تطوير الإنتاجية وزيادتها، والعنصر الفعال في تحقيق الأمن الغذائي، إلى جانب ضرورة وضع سياسة سعرية، يحقق فيها هامش ربح معقولاً لضمان استمرارية العملية الإنتاجية.
“جغيلي”: توجيه البوصلة باتجاه تحقيق الأمن الغذائي، يتطلب سياسة دعم مستمرة لمكونات الإنتاج من أسمدة، ومحروقات، وأدوية زراعية وآليات، والأهم توفير القروض الميسرة لدعم المنتجين.
هذا من حيث الجانب الزراعي أما ما يتعلق بالجانب الحيواني، وهنا لا نستطيع الفصل بينهما، باعتبارهما حالة إنتاجية واحدة مترابطة ومرتبطة مع بعضها، لذلك وقع عليها أثر كبير بسبب الحرب، حيث تعرضت الثروة الحيوانية وقطعانها ومزارع التربية إلى تدمير وتخريب، قسم كبير منها.
ضرورة ملحة
وهنا تظهر ضرورة ملحة تتمثل بإعادة عجلة الإنتاج، وأن تقوم المؤسسات البحثية التي توقفت عن العمل بدورها لإنتاج السلالات الجيدة، وتوزيعها على المربين والفلاحين، بأسعار معقولة، وأيضاً توفير الأعلاف المحسنة، لقطعان الثروة الحيوانية بأسعار معقولة، ومدعومة تمكن الفلاح والمربين من منافسة الأصناف الأجنبية التي تستورد من الخارج، وبأسعار أقل، مما هو لدينا، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج حالياً، مقابل حالات الدعم التي تقدمها الدول الأخرى لمنتجاتها وصادراتها إلى أسواقنا.
لذا لا بد من إعادة هيكلة القطاع الزراعي، بشقية النباتي والحيواني، وإعادة المؤسسات التي توقفت وتضررت إلى العمل، وتوفير المياه والمحروقات، وبأسعار مدعومة أيضاً، وبالتالي كل هذا الأمر يجب تحقيقه، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، وخاصة القمح وزراعته، أولى مكونات الأمن الغذائي، وتأمين حاجة البلد منه، والتي تقدر حاجة البلد من هذه المادة أكثر من 2.5 مليون طن من القمح، وأيضاً لا بد من ضم المساحات الزراعية في شمال شرقي الفرات، لأنها الخزان الأوفر من مادة القمح، والتي تشكل نسبتها أكثر من80% من الكميات الإجمالية المنتجة خلال العام، من دون أن ننسى ضرورة إعادة إنتاج محصول الشوندر السكري، وزيادة إنتاجيته، وتشغيل معامل تصنيعه بالصورة الاقتصادية المطلوبة، كمعمل سكر سلحب ومسكنة، لما يشكل هذا المحصول من قيمة مضافة على المستويين النباتي والحيواني من جهة، والاقتصادي من جهة أخرى.
لذلك من الضروري إيجاد صيغة لدعم المنتجين وتشجيعهم، وذلك من خلال القروض الميسرة، وعدم السماح بخسارتهم بالعملية الإنتاجية، وإعطائهم الأصول الوراثية النباتية والحيوانية الجيدة، بقصد زيادة الإنتاجية، إلى جانب تأمين الرعاية الصحية والبيطرية لها .
رأس المال
والجانب المهم الذي يعزز القيمة الإنتاجية وضمان استمراريتها “رأس المال”، الأمر الذي يفرض ضرورة وجود مؤسسات “مصرفية تمويلية” تقدم القروض بشروط ميسرة، تهدف إلى دعم الإنتاج الزراعي أولاً، وتمويل المشاريع الصناعية التي تعتمد في مادتها الأولية على المنتجات الزراعية سواء الحيواني أم النباتي ثانياً.
“جغيلي” استحالة تنفيذ أي مشروعات من دون مصادر تمويل، قادرة على ضخ السيولة، لتأمين قاعدة إنتاجية نباتية وحيوانية، تغطي حاجة السوق المحلية، وتصدير الفائض.
كما يرى “جغيلي” أنه لا بد من إحداث نظام هيكلي مصرفي يتولى التمويل بقروض بسيطة، وبفوائد متدنية لمدد زمنية طويلة، أو من دون فوائد، غير مرهقة للفلاح بحيث تكون شكلاً من أشكال الدعم المقدم للمنتج، وذلك من خلال برامج دعم تنموية وتوعوية، تستهدف مستثمري الأراضي الزراعية والإنتاج الحيواني، مؤكداً استحالة تنفيذ أي مشروعات من دون مصادر تمويل قادرة على ضخ السيولة لتأمين قاعدة إنتاجية نباتية وحيوانية، تغطي حاجة السوق المحلية، وتصدير الفائض من الإنتاج، وبالتالي ارتباط هذه المؤسسات الداعمة مالياً، مع مصادر حكومية، أو جهات خارجية تهتم بتأمين بيئة تنموية إنسانية مستدامة، وبما يتفق مع الحالة الاقتصادية العامة للدولة.
قيمة مزدوجة
أما فيما يتعلق بجانب التصنيع الزراعي، فله أهميته الخاصة، وعليه تحقيق القيمة المضافة للمنتج الزراعي، وحمايته من تدني الأسعار، وتحقيق قيمة مضافة مزدوجة “للمستثمر والمزارع” على السواء.
من هذا المنطلق يرى الباحث الاقتصادي”جغيلي” ضرورة دعم المنشآت الصناعية أيضاً لاستيعاب كامل خطة الإنتاج السنوية، بدلاً من تصدير المزروعات إلى الخارج بأسعار متدنية، أو خسارة أخرى تكمن في تقديم المحاصيل مادة علفية للحيوانات، وذلك لعدم تحقيق الريعية الإنتاجية والاقتصادية المطلوبة.