الحرية- سامي عيسى:
قراءة بسيطة ومتأنية، لا تحمل أي تعقيد لواقع الصناعات النسيجية خلال المراحل السابقة، فإننا نجد أن هذا القطاع وقع عليه الكثير من الظلم، يحمل مفردات كثيرة تحتاج كل مفردة فيها لشروحات تطول كثيراً، لأنها تحمل متناقضات مختلفة على صعيد العملية الإنتاجية والتسويقية والربحية أيضاً، وما حمله ذلك من خسارات، رغم نتائج إيجابية تستحق الوقوف عندها على صعيد الإنتاج والتسويق، لكن ثمة مشكلات ومعوقات رسخت معادلة لم نستطع التخلص منها حتى تاريخه، جعلت منه قطاعاً مخسّراً وليس خاسراً، وهذه المعادلة أصبحت واقعاً حياً لا أحد يستطيع نكرانه بفعل مجموعة من التأثيرات السلبية، التي عزّزت ذلك، معظمها يتمثل بمشكلات استعصت على الحلول، وأصبحت اليوم جملة معوقات فرضت حالة الخسارة “المخسّرة، وليست الخاسرة” يعرفها جميع العاملين في هذا القطاع، بدءاً من زراعة القطن، مروراً بمراحل الإنتاج، وصولاُ الى السلعة الاستهلاكية..
الصناعة النسيجية القطاع الأكثر إنتاجية والأوسع مردودية اقتصادية واجتماعية
من دون استئذان..!
وبالتالي أمام هذا الواقع يمكننا القول إن الصناعات النسيجية تشكل 40 % من حجم الصناعة الوطنية، وهذا في الحدود الدنيا، ومن حيث النظرة الأولية، لكن إذا تعمّقنا بواقعها من منبتها “الأرض” حتى المستهلك، فهي تتجاوز هذه النسبة بكثير، وعائدها الاقتصادي كبير، وريعيتها الاجتماعية هي الأوسع مردودية من كل القطاعات الأخرى، لأنها تدخل كل بيت ومن دون استئذان، هذا هو حال القطاع النسيجي، الذي ما زال ضمن دائرة الخطر ليس في أيامنا هذه فحسب، بل منذ سنوات، تراجعت فيها الإنتاجية وكثرة مشاكلها، وفقدنا الكثير من قوتنا الاقتصادية..!
تضافر جهود الجميع
واليوم الصناعة النسيجية، تعيش مرحلة تنذر بخطر قادم يهدد سلامتها، وخروجها من دائرة الإنتاج، وخسارة اقتصادنا الوطني لأهم مكوناته، وأهميتها تأتي على مساحة وطن..
الخبير الاقتصادي عصام تيزيني يرى هذه الخطورة قائمة باعتباره من الصناعيين العاملين بهذا المجال، وأعلن أكثر من مرة عن حالة الخطر الذي يهدد “جسم الصناعة النسيجية” بكل مكوناتها، وهذه مسألة تحتاج لتضافر جهود الجميع، ليس النسيجي منها فحسب، بل مجمل الصناعة الوطنية، مع ضرورة امتلاك القوة للدفاع عنها، وحمايتها وخاصة الصناعة الوطنية الخالصة، التي تعتمد في إنتاجيتها على المواد الأولية، من البداية وحتى المنتج النهائي، ونحن في سوريا هذا الأمر ينطبق بكليته على الصناعة النسيجية، والتي تعتمد في مكوناتها الأساسية على المادة الأولية الوطنية “القطن” دون أن نتجاهل صناعات أخرى، تحمل الاتجاه نفسه، كالسكر على سبيل المثال والتي اندثرت نهائياً، والأسمدة والتي كانت تعتمد على مادة الفوسفات المتوافرة في بلدنا، إلا أنها كصناعة اليوم أجهضت تماماً لأسباب مختلفة، منها بفعل الإدارات الخاطئة، ومنها بفعل الاستثمار وغيره، والحال ذاته ينطبق على صناعات أخرى مثل: الكونسروة والألبان والأجبان..
نتائج خطيرة
وانطلاقاً من الحرص الوطني باتجاه الحفاظ على الصناعة النسيجية نقترح معالجة بعض أوجه الخلل مثل تشجيع المستورد، على حساب المنتج المحلي، لأنه يجني أرباحاً سريعة، وتكوّن رؤوس أموال ضخمة في زمن قصير، هذا الأمر دفع إلى إهمال قطاعين: الأول زراعة القطن وتراجعها تدريجياً، وإهمالها بصورة مقصودة، وخروج آلاف الفلاحين من زراعتها، واتجاههم نحو زراعات أخرى، إلى جانب مسألة في غاية الخطورة تكمن في إهمال إدارات الشركات العاملة بالصناعات النسيجية، والتي أدت إلى ترهلها وكانت أهم أسباب تدهور القطاع النسيجي، والذي كان أغلبيته في كنف الدولة، علماً أنه ما قبل العام 2000 كانت مؤسسات وإدارات شركات النسيجية، نشطة وتحقق عوائد اقتصادية كبيرة، تعود بالنفع للصالح العام والخاص، لكن في ظل النظام البائد أصبحت حالة التدهور هي السائدة، نتيجة الاحتكار في زراعة وإنتاج وبيع القطن والغزول، ودخول مافيات تتحكّم في كل شيء وخاصة بعد العام 2010، وفرض سيطرتها على الأسواق، من خلال فرض سياسة سعرية عالية تتحكم فيها بكل مفاصل العمل النسيجي، “إنتاج استيراد تصدير”، أي اتباع سياسة تدمير ممنهجة أوصلت العاملين بحقل الصناعة النسيجية غير قادرين على الاستمرار، وحتى المنافسة في السوق المحلية، وخاصة أنه كان لدينا آلاف المنشآت الصناعية العاملة في مجال القطنيات والألبسة كانت تنافس في الأسواق الخارجية.
هروب عمالقة الصناعة
إلا أن الدخول في مرحلة الانهيار كانت منذ العام 2019، حيث تعالت الأصوات لمساعدتها وإنقاذها، والأخطر هروب عمالقة الصناعة النسيجية إلى الخارج مع مصانعهم، الأمر الذي أكد عدم وجود سياسة منهجية لدى النظام البائد تساعد أهل الصناعة من تجاوز مشكلاتهم، وحل مشكلة الاحتكار التي كانت متبعة، إلى جانب الخلافات الكبيرة بين التجار المستوردين، وبين المنتجين الصناعيين المحليين، وكل ذلك كان يصب لمصلحة طبقة محددة كانت تتحكم بسياسة البلد، همها الربح، وكسب المال، وتكريس حالة الفساد، الى أن وصلنا الى هذه الحالة، والتي كنا نعيشها قبل التحرير بعام على الأقل، حيث تعالت الأصوات وكثرت الندوات وورش العمل لإيجاد الحلول، لكن دون جدوى، أو حلول تذكر، حتى وصلنا إلى حالة الاحتضار الحالية.
خطوة محسوبة
حيث تعدّدت الأسباب في رأي” تيزيني” إلى جانب كل ما ذكر من أسباب، فإن سياسة الانفتاح الواسعة التي شهدناها بعد التحرير على العالم الخارجي، وانفتاح أسواقنا، لأنها كانت عطشى لكثير من السلع والمنتجات، وهذه خطوة محسوبة للحكومة بقصد توفير السلع للمواطنين بأسعار مناسبة ورخيصة ..
ولكن صراخ اليوم بدأ يأخذ اتجاهاً آخر، وخاصة ما يتعلق بالمنتجات النسيجية، وهنا أريد أن أسجل ملاحظة والكلام “لتيزيني”: إن السبب تراكمي مزمن منذ سنوات، واليوم بدأت تظهر النتائج، والحل في رأي “تيزيني” يكمن في تحمل المسؤوليات لدى جهتين: وزارة الزراعة إذ تحمل مسؤولية إعادة إحياء زراعة القطن، ووزارة الاقتصاد والصناعة من خلال تشجيع عودة الصناعيين للعمل وتوفير البيئة المناسبة والمشجعة لعودتهم إلى ميدان الإنتاج..
خبير اقتصادي: “الزراعة والصناعة” مسؤولية مشتركة لإنعاش القطاع من زراعة القطن لتوفير البيئة المشجعة
المطلوب جملة إعفاءات
وفي رأي الخبير “تيزيني” فإن أولى خطوات التشجيع تكمن في استيراد حاجاتهم من المواد الأولية، ريثما يتم توفيرها من السوق المحلية، وبأسعار معقولة ومناسبة، والأمر الآخر، تعويض الخسائر السابقة، وإصدار قرارات تتعلّق بالصناعات الوطنية، التي تعتمد في مكونها على المواد الأولية المحلية، تتعلّق بجملة من الإعفاءات الضريبية، وخاصة أننا خرجنا من مرحلة صعبة الصناعة الوطنية فيها تحت مستويات متدنية، وتحتاج لإجراءات دعم لإنقاذها وهذا لن يتم إلا من خلال اتجاهين: الأول من خلال التشريعات الإدارية المرنة والتي تساعد على حرية العمل، والاتجاه الثاني يكمن في تقديم تسهيلات مادية، نذكر على سبيل المثال إعفاءات ضريبية لمدة ثلاث سنوات على الأقل، إعفاءات مالية تتعلّق بالتأمينات الاجتماعية، إعفاء من الرسوم الجمركية على مدخلات الإنتاج المستوردة، لمصلحة المنتج الفعلي المحلي، تخفيض قيمة فاتورة استهلاك مصادر الطاقة، وبالتالي تحقيق ذلك ليس بالصعب على الحكومة، وتمتلك القدرة على التنفيذ وخاصة أنها لا تتحمل أرصدة مالية تخرجها من الخزينة ودفعها للصناعيين، بل تخفيف الإجراءات على المصانع، وهذا بدوره يخفف من فواتير كلف الإنتاج، وخاصة أنه هناك كلف غير مرئية داخلية محلية لها علاقة بمدخلات الإنتاج، وباتخاذ هذه الإجراءات يمكن إيقاف مستوى الانهيار الذي وصلت إليه هذه الصناعة، ريثما يتم تحسين الواقع، وتأمين البيئة المناسبة التي تؤمن الانطلاقة الجديدة لهذه الصناعة.