الحرية- لبنى شاكر:
اكتسب سجن صيدنايا لقبه الشهير “المسلخ البشري” بجدارةٍ وأحقيّةٍ لا خِلاف عليهما، فهو المكان الذي أُجبِر فيه المعتقلون على شرب بولهم وأكل لحوم آدميين كانوا قبل أيام أحياء يُعذّبون معهم، وهو البقعة التي استحالت إلى مسرحٍ تنوّعت فيه فنون التعذيب، من ضرب بالخراطيم وأنابيب التمديدات الصحية والهراوات، إلى “الشبح” و”بساط الريح” و”الدولاب”، مُضافاً إليها الاغتصاب وأبشع الانتهاكات الجسدية، وصولاً إلى ما عرفناه بعد سقوط نظام الأسد عن “المكبس” و”غرف الملح” و”الحرق” و”التذويب”.
اليوم، لو تركنا لِمخيلتنا أن تجمع هذا كله في مساحةٍ معزولة عن العالم، لِنفكر في مدى صعوبة حصول المُعذّبين على قلمٍ أو طبشورةٍ أو أية أداةٍ يُمكن الكتابة بها على الجدران، وما الذي يُمكن لبشرٍ أن يقوله أو يكتبه أو يُريد لنا أن نعرفه، سنجد أنفسنا أمام تساؤلاتٍ لا حصر لها. ومن ثم، وبلا سابق إنذار، حمل أحدهم فرشاة وسطل دهان أبيض، وراح يطمس أعواماً من القهر المُوغل في الأرواح والأجساد، هكذا ببساطة!.
ورغم الاستهجان والغضب اللذين قُوبل بهما طلاء جدران سجن صيدنايا والرسم عليها، بحجة إضفاء شيء من الجمال على القبح والمآسي التي تملؤها، إلا أن الأمر بِرمته سرعان ما أصبح من المنسيات، حتى أنه لم تظهر أية جهةٍ لتعتذر أو تشرح شيئاً عن الفعل الذي قام به فريقٌ من المتطوعين، ولا سيما أن ما حصل يتجاهل كلياً دعوات تحويل سجون النظام المُجرم إلى متاحف، توثّق وتحكي ما اقترفه طوال سنوات حكمه من مجازر، ولا تفوتنا الإشارة إلى أن التعاطي الفني الساذج مع واحدٍ من أشد السجون العسكرية السورية تحصيناً وازدحاماً وتعذيباً، يُعادل العبث بمسرح جريمة وإخفاء أدلة وآثار وحيواتٍ بأكملها. وفي هذا السياق كان حديثنا مع الفنانين والناقدين التشكيليين أديب مخزوم والفينيق حسين صقور.
من السجون إلى المتاحف
أكّد الفنان أديب مخزوم أن طلاء سجن صيدنايا وغيره من سجون النظام، خطأٌ بمعنى الكلمة، وعلى حد قوله لـ “الحرية”: “هذه السجون يجب أن تتحول إلى متاحف لجرائم النظام السابق، والتي فاقت جرائم النازية، فآثار المعتقلين على الجدران من كتابات وإشارات ورموز وحتى رسوم عفوية، تُعطي مصداقية لزوار السجون أو المتاحف لاحقاً، كما أنها تُثبت اعتقال من يوصفون بالمفقودين ومن تم إعدامهم بطرق وحشية ومرعبة وطمس أي أثرٍ لهم”.
صقور: “طلاء السجون محاولة لطمس ملامح مرحلة اتسمت بالقسوة، ومحوها من ذاكرة التاريخ وذاكرتنا”
من جهته، ذهب الفنان الفينيق حسين صقور إلى أن “طلاء السجون محاولة لطمس ملامح مرحلة اتسمت بالقسوة، ومحوها من ذاكرة التاريخ وذاكرتنا”، مُضيفاً لـ “الحرية”: “فكرة تحويل بعض سجون الطاغية لمتاحف تُذكّر بجرائمه المرتكبة وتُشير لمصير الطغاة عاجلاً أم آجلاً، هي فكرةٌ صائبةٌ، لكن فقط حين ننتبه ونُشير لهوية السجين والسجان، فالسجين هو الشعب الحالم بالكرامة والحرية بكافة أطيافه، والسجان وحشٌ سقطت عنه كل الصفات الإنسانية، ولا دين له سوى جشعه وأطماعه التي جُبِل عليها”.
حتى لا تضيع الغاية
صقور حذّر من الأثر العكسي الذي يُمكن أن تُسببه الذكرى المؤلمة في النفوس الغافلة عن حقيقة الحدث، وعلى ما يقول: “حين لا تكون الصورة واضحة يجب توضيحها، فقد تُثير متاحف من هذا النوع الفتنة والطائفية على المدى الطويل، وربما تُؤجج مشاعر الانتقام اللحظي، وحينها نضيّع الغرض والغاية، في تصوير جرائم الديكتاتورية ومصيرها المحتوم في الزوال في كل زمانٍ ومكان، ولن تكون هذه الفكرة صائبة إلا حين يُقام ما يُوازيها ويُجاورها من أنشطةٍ توجيهيةٍ وتوعويةٍ وثقافيّة”.
كما اقترح أيضاً أن يُقام إلى جوار السجن/ المتحف، ملتقيات وصالات عرض، ومتحفٌ فنيٌّ يكتنز بنتاجاتٍ لفنانين من كافة البقاع والمدن السورية، يُمكن أن يضمّ أعمالاً تعبيرية اضُطهِدت في الزمن البائد، ويرى صقور إنه “لا يمكن محو مرحلة زمنية عشناها في ظلال ذاك النظام، بكل ما تحمله من ألمٍ وذلٍ ومرارةٍ، فهي بمثابة درسٍ طويل الأمد، وإن تجاوزناها فلنتعلم منها ما يحمينا ويجعلنا أكثر محبة وقوة وتعاضداً، كلنا نتحمل المسؤولية تجاه ماضٍ مريرٍ عشناه وحاضرٍ ما زلنا نسعى لتطهيره وإعادة بنائه، لننعم وينعم أولادنا بمستقبلٍ طالما حلمنا به ورسمناه بأفكارنا”.
تاريخ وصور ووثائق
في ميدان السجون حيث حكاية الجلادين والضحايا نابضة عبر الزمن، استحضر مخزوم المتاحف التي أعطت صورة عن ضحايا الإبادة الجماعية النازية، وفي بعضها تُعرض وثائق تُظهر كيف وصل العريف “أدولف هتلر” إلى السلطة، وكيف سخّر أجهزة الدولة، لارتكاب جرائم القتل على نطاق واسع.
مخزوم: “يجب أن تُفتتح زنازين السجون وخاصة في صيدنايا، للزوار، فهي الأماكن التي شهدت عمليات تعذيب، وإعدامات المعتقلين بسبب خلفياتهم السياسية”
يُضيف لـ”الحرية”: “في بلدنا يجب أن تُجمع الوثائق المشابهة من قبل جهات متخصصة، وتُعرض في متاحف المستقبل الخاصة بجرائم نظام البعث الدموي، كما يجب أن تُفتتح زنازين السجون، وخاصة في صيدنايا، للزوار، فهي الأماكن التي شهدت عمليات تعذيب، وإعدامات المعتقلين بسبب خلفياتهم السياسية، كذلك، يجب أن تُعرض الصور التي تُوثّق للضربات الجوية بالبراميل المتفجرة، والقذائف الصاروخية والمدفعية، وكل ما كان وراء صدور قانون قيصر، والمقاطعة الدولية للنظام البائد، هذه التفاصيل تحتاج لإشراف مراكز توثيق متخصصة من أجل المصداقية والاحترافية في العمل، وفي المحصلة لا بد من خطوات لتعريف العالم والأجيال بوحشية النظام البعثي، وتخليد ذكرى ضحاياه”.
بقايا أصنام الديكتاتورَين
غير بعيدٍ عن المتاحف كأدوات توثيق وتعريف بالحقبة البائدة، تحدث مخزوم عن الدادائية، وهي مدرسة فنية انتشرت خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وارتكزت على إعادة تدوير نفايات وبقايا آلات الحرب، لافتاً إلى ضرورة إعادة إحياء هده المدرسة عندنا، بإقامة معارض قائمة على إعادة تدوير الوسائل التي استخدمها نظام البعث للقتل، وفي مضمارها بقايا أصنام الديكتاتور حافظ الأسد، وبقايا اللوحات الجدارية التي تم تحطيمها أو إزالتها له ولوريثه الهارب.