عندما تنتشل القصة شخصياتها من القاع: قراءة في “رائحة صنوبر قديم” للقاص حيدر المحسن

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- أحمد عساف:

تتعالى في الآونة الأخيرة، بعض الأصوات النقدية التي تُنبئُ بانطفاء جذوة فن القصة القصيرة، ذلك الجنس الأدبي الشاق في صياغته، الرائع في أسلوبه. بل تجاوز البعض حد التنبؤ إلى الإعلان عن دنو أجله، وزعموا أنه فنٌ يلفظ أنفاسه الأخيرة.
غير أن هذا الرأي المتشائم يتبدد أمام حقيقة مشهدٍ قصصيٍ نابض بالحياة، تُثبته إصداراتٌ جديدة تظهر هنا وهناك، حاملةً إبداعاتٍ تجعل أصحاب تلك الظنون يصابون بالذهول، وخيبة الأمل من فشل نبوءاتهم بأفول نجم هذا الفن الجميل.
لعّل مجموعة (رائحة صنوبر قديم) للقاص الدكتور حيدر المحسن، واحدة من المجموعات القصصية التي تنتصر لمصلحة فن القص العربي، إنها مجموعة قصصية لافتة للانتباه من حيث بنيتها ومن حيث إخلاصها للبيئة، التي تظهر بكثير من الصدق والإخلاص للقارئ الذي يتخيل البيئة التي صاغها المحسن بكثير من حساسية كاميرته القصصية ومن شخصياته التي انتشلها من القاع.

مزج الواقع بالسوريالية

تبرهن المجموعة للقارئ والناقد والمهتم. أن فن القص لن يأفل ولن يتلاشى. فعلى امتداد 66 صفحة من القطع المتوسط، يستدرجنا القاص المحسن إلى عوالم قصصه، التي تمزج الواقع الحياتي لبعض الشرائح من المجتمع، بأسلوب أقرب إلى السوريالية. هنا يكمن تميز فن السرد القصصي أن تكون شخصيات واقعية، منتشلة من قاع المجتمع ومن ثم يتم سرد حكاياتها بأسلوب شائق، عبر لغة جزلة مشوقة مطواعة تعكس وعي بطلها وثقافته، واللافت في هذه القصص أنها تحمل بعض مما يبتكرها مبدعها من حيث البعد الفيزيولوجي، وآلية تفكيرها وبالتالي الوصول إلى نهايتها.

قصص البسطاء

في هذه المجموعة القصصية الأحدث للأديب حيدر المحسن. نحن أمام قصص قصيرة تنتمي للناس البسطاء، لشخصيات انتشلها المحسن حيدر، من القاع المجتمعي المهمش والبسيط، والموغل في قديم نسيح الحكايات، التي تنبثق رائحة حزنها كرائحة حزن عتيق.
من حيث الاشتغال على مكان الحدث القصصي وعلى ترتيب الشخصية القصصية بكل أبعادها الفيزيولوجية والنفسية والشكلانية، سنجد ذلك في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها: (رائحة صنوبر قديم) ص 21
(في هذا البيت أظنّ لا شيء يضيع، وكل شيء يريح القلب! قالت الخادمة تحدث نفسها. سعلت العجوز بخفة ووضعت يدها إلى جانبها واستوت في سريرها). ص 21.
هي قصة تنتمي إلى تيار القصة القصيرة الحديثة، حكاية سيطر على معظم صفحاتها المشاهد الوصفية والمونولوج الداخلي لبطلات القصة/ إنها تحكي وتحكي، والخادمة لا تفهم شيئاً، تحمل الكأس الفارغة. فيما تهب من الأثاث رائحة صنوبر قديم.
اللافت أيضاً في هذه المجموعة القصصية من حيث قصرها أو طولها، نجد قصصاً لا تتجاوز عدد صفحاتها الصفحة الواحدة، هذا ما نجده في أول القصص، القصة التي تحمل عنوان (قيافة). وهي قصة جميلة تحمل اسقاطات ودلائل رمزية ذكية
على حين أننا وفي القصة الثانية (صورة على حائط) في هذه القصة سنكون منذ السطور الأولى أننا أمام حدث عربي عالمي ألا وهو حادث تفجير مرفأ بيروت، هي جملة أولى في القصة، وهنا يأخذ القاص دور البطل حين يقول: (غادر جميع السيّاح والمقيمين، وكذلك قسم من أهل بيروت المدينة، وحللت أنا فيها نتيجة ظروف عمل قاهرة لا تحتمل التأجيل). ص 9 وهي قصة تنتمي لفن القص السوريالي الحديث.

علامة فارقة

ما فتئت العلامة الفارقة لقصص حيدر المحسن اختلافها من حيث الفكرة والسرد وتنوع الشخصيات، كما أنها لا تشبه قصص الآخرين، حين يقتفي قارئها أثر الحكاية منذ الأسطر الأولى للقصة، حتى الجملة الأخيرة. ومن حيث استخدام الضمائر في القصص يميل الكاتب إلى ضمير المتكلم، وهو كثيراً ما يكون لسان حال بطل القصة، الذي نجده في كثير من قصص المجموعة نذكر على سبيل المثال: (صورة على الحائط) ص 9 إلى قصة (سلوان). كذلك في قصة (بركة).

ويبقى أن أذكر أنني قبل أن أغوص بين دفَّتي مجموعته القصصية الأخيرة “رائحة صنوبر قديم”، الصادرة عن دار التكوين، سبقتها إلى مكتبتي مجموعته “نهار بطيء”، التي صدرت عن الدار نفسها. بيد أننا نجد أن المناخات والطقوس السردية في “نهار بطيء” تختلف إلى حدٍّ ما عن عالم مجموعته الأحدث؛ باستثناء قسم القصص القصيرة جداً، الذي ينطلق من الصفحة 97 حاملاً معه أنفاساً قصصية جديدة، ليمتدَّ حتى الصفحة 149 مُشكِّلاً عالماً مختلفاً داخل المجموعة نفسها.

Leave a Comment
آخر الأخبار