الحرية- جواد ديوب:
مُخطئ من يعتقد أن قصص الأطفال مخصّصة لهم فقط لكونها مملوءة بالمواعظ والحكم كمواضيع التعبير المدرسيّة، بل إن تلك الكتب كثيراً ما تصبح فرصةً ذهبية لنعود أطفالاً تسرقنا جنيّات الحكايات، ونصدِّق الكذبات المدهشة والسحر الكامن في خوارق أبطالها، وتلك الأعاجيب التي يبتدعها الراوي فيجعل منّا آذاناً مصغية وقلوباً راقصة على إيقاع الخيال… ففي زمن الخلطات البشرية الهجينة من السرعة والليزر والبوتوكس وألعاب الفيديو المجسِّدة لوحشية البشر وعنفهم… صار أطفالنا، ونحن معهم، في شوقٍ لبراءة مفقودة كنا نعيشها مع جداتنا، وهنّ يروين لنا حكايات خرافية نصدّق كل كلمة فيها، ونرى أرواح شخوصها وذئابها وحورياتها وشطّارها وبائعيها الجوالين تتراقص مع ظلالنا ونحن متحلّقون حول سراج الكاز.
ربما لذلك أتلقّفُ -بشغفِ طفلٍ ينتظر العيد- منشوراتِ الطفل/ وزارة الثقافة (الهيئة العامة السورية للكتاب)، وبخفة ومرح أحلّقُ مع البجعات فوق بحيرات الشمال الباردة، وأنا أقرأ رواية “بوق طائر التَّـمّ” ( ألّفها الأمريكي إ. ب. وايت، وترجمتها بلغة سلسة ومريحة الدكتورة الراحلة ملكة أبيض زوجة الشاعر الراحل سليمان العيسى).
في هذه الرواية -التي حصلت على لقب “الكتاب الممتاز” عالمياً- لا نلمح أي أثر لمشاعر “الشفقة” ولا حتى ذاك الإحساس الخفيّ بالتفوّق أمام ضعف الآخر المختلف أو العاجز، إذ إن الكاتب وبينما يروي لنا قصّة طائر البجع المخلوق من دون قدرة على إطلاق صوته المشابه لنغمة البوق، إنما هو يروي لنا بكل نبلٍ حكاية الأطفال ذوي الحاجات الخاصة؛ الأبطال الذين رغم معرفتهم بإعاقتهم؛ هم جميلون على نحوٍ نادرٍ، جمال يثير فينا إعجاباً غامضاً.
كما عرف المؤلف أن يوصِلَ لنا الجوهر الشائق لفعل الروي أي “روح المغامرة” التي تجعل من قصة أطفال حكايةً ممتعة حتى للكبار، فما يفعله طائر التمّ إنما هو خوض المغامرات المملوءة بمفاجآت وعقبات يتغلب عليها بذكاء وثقة وإصرار ولّده في قلبه حبٌّ منقوصٌ لم يكتمل بسبب إعاقته.
الفكرة هي أن الحكايات عبر التاريخ نشأت من رحم الآلام، فهي قصص أناسٍ يشبهوننا في حزنهم وخيبات أملهم والأهوال التي قاسوها، لكنهم يختلفون عنّا بأنهم عرفوا كيف يصبرون على مواجعهم ويقاومون المصاعب، فتحوّلوا من دون قصد منهم إلى حكايات لا تنسى، إلى نماذج نتمثّلها في حياتنا من دون أن ندرك أن سرّ عظمتهم وخلودهم كان بدايةً في تقبّلهم لما هم عليه من “عجز” واختلاف… فطائر البجع معدوم الصوت يحاول أن يتعلّم لغة البشر بلوحٍ وقطعة طبشور يعلقهما في رقبته كل الوقت، لكنه يكتشف أن حبيبته لا تعرف شيئاً عن هذه اللغة، فيهديه والده آلة “ترومبيت” موسيقية لعلها تكون صوته الآخر، وليقول عبرها شجنه وأفكاره، لكن الأب فعل ذلك بحيلة غير محببة هي سرقة الآلة الموسيقية! فعلٌ جعل التمَّ الصغير في صراعٍ ذاتي جديد، وراح يخطط للعمل في حديقة الحيوان كبجعٍ أعجوبةٍ يعزف على آلة موسيقية، في محاولة لتجميع النقود ودفع سعر البوق المسروق ومسح مشاعر الخجل والحزن عن وجه والده.
الجميل كما قلت، هو أن الطاقة السحرية الكامنة في الجملة الخالدة: “كان يا ما كان في سالف العصر والأوان”… تجعلنا نتواطأ بمتعة مذهلة مع الراوي، ونصدّق كل ما يرويه لنا من أحداث وأفعال خيالية على أنها حقيقة واقعية حدثت بالفعل، وأن “الشطارة” في المهارة؛ أي في مواجهة وتحدّي المشقّات للوصول إلى الراحة النفسية والنهايات المريحة حتى لو كانت نهايات حزينة! بهذا المعنى، فإن حاجتنا للحكايات لا تقل عن حاجة الصغار أبداً، لأن حروب الزمن الراهن قد حوّلتنا إلى مسوخٍ كافكاوية بهيئاتٍ عصريّة وأجهزة موبايل آخر موضة!
وبهذا المعنى أيضاً، فإن الحكايات والسير الشعبية والملاحم وحتى الخرافات هي زوّادة عظيمة للبشرية، تجعلنا نتعاطف مع آلام أبطالها كما نتعاطف مع هزائمنا الشخصيّة، ففي هزيمة أبطال الحكايات التي روتها لنا جدّاتنا كرامةٌ لا يحبها صانعو أفلام “السوبرمان” و”الخارقون” و”الزومبي/ الأموات الأحياء” الذين لا يخسرون ولا يُهزمون أبداً.
رواية الأطفال “بوقُ طائرِ التّمّ”… المغامرةُ بوصفها جوهرَ حكايات الشعوب!

Leave a Comment
Leave a Comment