الحرية – أمين سليم الدريوسي:
في مثل هذا اليوم، الثامن من كانون الأول، لا يستعيد السوريون مجرد ذكرى سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية صنعتها دماء الشهداء وصبر الأمهات وصمود المدن والقرى.
إنه اليوم الذي طويت فيه صفحة الاستبداد الثقيلة، وبدأت كتابة فصل جديد من الحرية والكرامة، ذلك اليوم لم يكن مجرد سقوط نظام، بل كان ميلاد وطن جديد خرج من رحم 14 عاماً من الثورة التي واجهت أعتى التحالفات الإقليمية والدولية، لكنها بقيت صامدة حتى لحظة النصر.
في الثامن من كانون الأول، شعر السوريون بأن التاريخ انحنى أمام إرادتهم، وأن العالم كله يشهد ولادة سوريا جديدة، سوريا لا تُحكم بالخوف ولا تُدار بالحديد والنار، بل تُبنى على أساس الحرية والعدالة، فقد كان ذلك اليوم أشبه بعرس وطني، حيث امتزجت دموع الفرح بدموع الفقد، وتحوّل الحزن الطويل إلى أمل متجدد.
ذكرى النصر والتحرير
ولم تكن معركة «ردع العدوان» مجرد مواجهة عسكرية بين جيشين، بل كانت ملحمة وطنية شارك فيها أبناء الشمال والجنوب، الفلاحون والعمال، المثقفون والطلاب، لتلتقي دماء الشهداء في قلب دمشق وتعلن ميلاد سوريا الجديدة، لقد تحولت تلك المعركة إلى لحظة جامعة، حيث امتزجت أصوات التكبير في المساجد مع أجراس الكنائس، لتقول للعالم إن الشعب السوري بكل أطيافه قرر أن يكتب مصيره بيده.
في الثامن من كانون الأول، لم يكن النصر مجرد بداية لتحرير أرض، بل كان تحرير روح، كانت الساحات تموج بالهتافات، والأعلام ترفرف فوق البيوت المهدمة، والنساء يزغردن من الشرفات، فيما الأطفال يركضون في الشوارع لأول مرة بلا خوف، لقد صار ذلك اليوم علامة فارقة في تاريخ الأمة، يوماً يُحتفل به لا كذكرى ستمر كل عام، بل كعيد وطني يذكّر الأجيال بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بدماء الأبطال وصبر الشعوب.
عام على الثورة المنتصرة
عام مضى على النصر، حمل معه تحولات كبرى، في هذا العام بدأت سوريا تفتح عيونها من جديد، كطفلة خرجت من ظلام طويل لترى النور لأول مرة، مؤسسات الدولة بدأت تُبنى على أسس جديدة، لا على الخوف والفساد، بل على المشاركة والشفافية، المدن استعادت شيئاً من حياتها، الأسواق عادت لتضج بالحركة، المدارس فتحت أبوابها، والناس عادوا ليزرعوا حقولهم ويعيدوا بناء بيوتهم.
وفي هذا العام أيضاً، ارتفع صوت الإعلام الحر، ليكون مرآة الناس لا بوق السلطة، وبدأت الدراما الوطنية تتجدد لتروي قصص الثورة والحرية، فكان ذلك إعلاناً أن سوريا الجديدة لا تُبنى بالسلاح، بل بالكلمة والفن والفكر، لكن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود، فقد جاءت أحداث السويداء ومحاولات فلول النظام السابق في محاولة لزعزعة الاستقرار فكان هذا تذكيراً قاسياً بأن الثورة لم تنتهِ بعد، وأن النصر ليس نهاية المطاف بل بداية معركة أخرى، هي معركة الحفاظ على المكتسبات.
البعد الدولي
كما أن العام الأول بعد التحرير لم يكن مجرد بداية داخلية، بل كان أيضاً إعلاناً عن عودة سوريا إلى المشهد الدولي بعد سنوات من العزلة والحصار، فزيارة وفد مجلس الأمن إلى دمشق لم تكن زيارة عادية، بل اعتراف بواقع جديد صنعه الشعب السوري بدمائه وصموده.
كما أن رفع اسم سوريا من قوائم الإرهاب في بعض الدول الغربية فتح الباب أمام انفتاح اقتصادي ودبلوماسي طال انتظاره، وأعاد الأمل بعودة الاستثمارات والعلاقات الطبيعية مع العالم، هذه التحولات بداية مسار طويل يعيد سوريا إلى مكانتها الطبيعية كدولة فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، دولة لا تُعرّف بالحرب والدمار، بل بالحرية والنهضة.
تحديات المستقبلية
في مقابل كل ذلك فإن المستقبل لا يُبنى بالتصفيق، بل بالعمل الجاد والمسؤولية، فاليوم أمام السوريين مهام جسيمة، أولها صياغة دستور جديد يكرّس الحرية والعدالة، ويضمن مشاركة كل أبناء الوطن في صنع القرار، تعزيز المصالحة الوطنية بات ضرورة لا تحتمل التأجيل، فالثورة لا تكتمل إلا إذا تحوّلت إلى عقد اجتماعي يجمع الجميع تحت سقف واحد، وضبط السلاح هو التحدي الأكبر، لأن الحرية لا يمكن أن تزدهر في ظل الفوضى، ولأن بناء الدولة يحتاج إلى مؤسسات قوية تحمي المواطن لا أن ترعبه، أما الاستثمار في الشباب والتكنولوجيا، فهو الطريق الوحيد لبناء سوريا حديثة قادرة على المنافسة والانفتاح على العالم.
قصارى القول، اليوم، وبعد عام على النصر، يقف السوريون أمام فرصة تاريخية نادرة، فرصة لصياغة وطن حر، مزدهر، وعادل، وطن يليق بتضحيات الشهداء وصبر الأمهات وأحلام الأطفال الذين كبروا على وقع الثورة، هذه ليست مجرد ذكرى، بل مسؤولية جماعية، لأن الثورة لا تكتمل إلا إذا تحولت إلى دولة، والدولة لا تزدهر إلا إذا حملها شعبها على أكتافه.
إن سوريا الجديدة مدعوة اليوم لأن تكون نموذجاً في الحرية والكرامة، وأن تكتب فصلاً مشرقاً في تاريخها الحديث، فصلاً يروي للعالم أن الشعوب مهما طال صبرها، لا بد أن تنتصر، الثامن من كانون الأول سيبقى عهداً متجدداً بأن سوريا لن تعود إلى الظلام، ولن تعود إلى الوراء، وأنها ستظل تنبض بالأمل، وعينها على المستقبل، وتزهر بالياسمين، وتعيش بالحرية، وكل عام وأنتم وسوريتنا بخير.