سوريا- العراق.. تقارب اقتصادي يعيد خط كركوك- بانياس إلى الواجهة.. أمن الطاقة وتنويع مسارات التصدير وتحييد التحديات الجيوسياسية

مدة القراءة 13 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:

يوم الجمعة الماضي أعلن وزير الطاقة محمد البشير أنه يعتزم زيارة العراق قريباً لدراسة إعادة تأهيل خط النفط الذي يربط كركوك بميناء بانياس. إعلان مهم بدلالات إستراتيجية بينية وإقليمية، وهو عملياً أول تحرك رسمي سوري مقابل عدة تحركات عراقية خلال الأشهر الماضية تركزت على إعادة إحياء هذا الخط.
في القراءة البينية فإن هذا الإعلان (وتالياً الزيارة المرتقبة) يعكس تطوراً بارزاً على مستوى العلاقات السورية العراقية، وإعادة تدويرها في مسارات صحيحة، ولا شك أن الاقتصاد يشكل رافعة كبيرة في دعم العلاقات ودفعها باتجاه معالجة ملفات أخرى سياسية وأمنية بصورة نهائية، علماً أن العلاقات السياسية والتعاون الأمني شهدا بدورهما تقدماً مهماً (أمس الأحد كان العراق حاضراً بوفد مهم خلال تخريج الدفعة الأولى من عناصر مكافحة المخدرات في منطقة حارم بريف إدلب).
وفي القراءة البينية أيضاً فإن عجز الطاقة الذي تعاني منه سوريا يتقاطع إيجابياً مع طموحات العراق لتوسيع خياراته/منافذه التصديرية، خصوصاً النفط حيث يشهد تحديات كبيرة هي بمجملها إقليمية بدوافع جيوسياسية لا تخفى على أحد. هذا التقاطع الإيجابي كان لا بدّ أن يعيد إلى الواجهة، في كل مرة، خط أنابيب كركوك- بانياس باعتباره حاجة مشتركة، بل أولوية ملحة للبلدين يتجاوزان بها تعقيدات الداخل وتقلبات الخارج.

زيارة البشير إلى العراق وتحديد هدف الزيارة بدراسة تأهيل خط كركوك- بانياس يأتي ضمن جهود الحكومة الكبيرة والمتواصلة لتحسين واقع الطاقة وبما يتلاقى مع خط الغاز الأذري ويصب مباشرة في دعم الاقتصاد وإعادة الإعمار

وبانتظار زيارة الوزير البشير للعراق، فإن الاهتمام السوري – العراقي يبدو في هذه المرحلة واضحاً بصورة رسمية متبادلة لإعادة تشغيل الخط، وإذا كان العراق بدأ مبكراً في طرح هذه المسألة (مباشرة بعد التحرير في 8 كانون الأول الماضي، وبصورة رسمية في نيسان الماضي عبر زيارة وفد عراقي رسمي برئاسة حميد الشطري رئيس جهاز الاستخبارات إلى دمشق) فإن سوريا لم تكن بعيدة عن الاهتمام بهذا الخط ووضعه موضع الدراسة المستفيضة ولاسيما أنه يتلاقى مع جهودها الكبيرة والمتواصلة لتحسين واقع الطاقة، وبشكل ينعكس إيجاباً على ساعات الوصل الكهربائي، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية يكون استكمالاً لمسار دعم قطاع الطاقة بجهود عربية إقليمية تمثلت مؤخراً بخط الغاز الأذري عبر تركيا إلى سوريا..(وضمن ذلك إعلان الوزير البشير عن دراسة جارية لإنشاء مصفاة نفط جديدة تمكن سوريا مستقبلاً من دخول سوق تصدير المشتقات النفطية) وهو دعم يصب مباشرة في دعم الاقتصاد السوري وإعادة الاعمار بعد سنوات الحرب.
ووفق التقارير فإن لجان سورية عراقية مؤلفة من مهندسين وخبراء تعمل على الأرض وتجري مسوحات ميدانية، فيما تشير التقديرات الأولية إلى أن تكلفة إعادة بناء الخط قد تتجاوز 4.5 مليارات دولار، فيما ستستغرق الأعمال الإنشائية قرابة 36 شهراً.
أيضاً تكشف التقارير عن خطة فنية أولية تشمل بناء خط مزدوج بطاقة 1.5 مليون برميل يومياً، تتخلله محطات ضغط ومراقبة حديثة، مع استبعاد جزء من المسار القديم في محافظة دير الزور، وتعويضه بمسار أقصر يمر جنوب حمص.

– بين الاقتصاد والسياسة

ربما ليس مهماً ذلك السؤال حول ما إذا كان تشغيل الخط هو قرار سياسي أم اقتصادي إذا ما نظرنا إلى حجم التحديات التي يواجهها البلدان. تشغيل الخط هو قرار سيادي متبادل أكثر منه سياسي أو اقتصادي، من دون أن يعني ذلك أن البعد الإقليمي الدولي لن يكون حاضراً أو أنه لن يمثل تحدياً إضافياً على طريق النجاح في إعادة تشغيل الخط. وعليه فإن النقطة الأساسية هنا هي قدرة سوريا والعراق على تجاوز التدخلات والتحديات والانفتاح على بعضهما البعض وفق منطق المصالح المشتركة وصياغة دور إقليمي جديد على أسس مختلفة بعيداً عن السياسات الإيديولوجية والتحالفات السامة كما كان الحال في عهد النظام السوري السابق.
– بالنسبة لسوريا وحسب قراءة الاقتصاديين فإن هذا الخط سيعود بمنافع أكبر عليها، صحيح أن الضخ سيكون من العراق لكن الفائدة الفعلية ستكون لدولة المصب، أي لسوريا. هذا الخط سيحقق عوائد مالية كبيرة من خلال خلق آلاف فرص العمل، ودعم سوق الطاقة المحلي عبر تكرير النفط العراقي بأسعار منخفضة في مصفاة بانياس. إلى جانب إمكان تطوير المصافي السورية ورفع كفاءتها لتكرير النفط العراقي وتنشيط المرافئ السورية وتعظيم الإيرادات إلى جانب الدفع بالعلاقات التجارية مع أوروبا.

عجز الطاقة الذي تعاني منه سوريا يتقاطع إيجابياً مع طموحات العراق لتوسيع منافذه التصديرية خصوصاً النفط.. هذا التقاطع كان لا بدّ أن يعيد إلى الواجهة في كل مرة خط كركوك- بانياس باعتباره حاجة ملحة للبلدين

– إذا كان العراق سيستفيد من هذا الخط لتأمين أسواق جديدة فإنه سيعزز بالمقابل موقع سوريا كممر إقليمي للطاقة عبر استثمار موقع ميناء بانياس كمنفذ تصدير نفط ومشتقات نفطية.
– إذا لم يتم تفعيل خط كركوك – بانياس فهذا يعني تحييد سوريا كلياً عن الفوائد الاقتصادية لمصلحة توجه العراق نحو ميناء العقبة. هناك مخزونات هائلة من النفط العراقي الذي لم يستثمر سابقاً بصورة جيدة بسبب الحروب ولم ينتج بالكميات الكافية، فالعراق اليوم يمكن أن ينتج 3 ملايين برميل يومياً، والساحة العراقية غنية، وعلى المسؤولين السوريين العمل بكل السبل لربط الساحتين العراقية والسورية للاستفادة من عائدات مرور وتخزين النفط العراقي وتأمين حاجات سوريا النفطية.
– بالنسبة للعراق يعدّ إحياء هذا الخط أولوية إستراتيجية بعد توقف صادرات النفط عبر ميناء جيهان التركي منذ آذار 2003 بقرار من تركيا ليتكبد العراق خسائر بمليارات الدولارات.. وعليه فإن الاعتماد الكلي كان على منفذ تصديري واحد هو البصرة عبر الخليج العربي، وهذا ما يجعل البحث عن بدائل أمراً ملحاً، ومنفذ بانياس يعد خياراً أنسب من منفذ العقبة لقربه من الأسواق الأوروبية ما يخفض تكاليف النقل بصورة ترفع الجدوى الاقتصادية وتعزز الأمن الطاقوي عبر تحقيق هدف إنتاج 6 ملايين برميل يومياً، تماشياً مع الطلب العالمي المتزايد في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية. (يُصنَّف العراق ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة أوبك، بمتوسط إنتاج يتخطى 3 ملايين برميل يومياً، ويشكل النفط أكثر من 90% من إجمالي صادراته، ما يجعله ركيزة أساسية في تمويل الموازنة العامة ومشاريع التنمية).
– إعادة تشغيل خط كركوك- بانياس تعيد العراق إلى البحر المتوسط (وتمنحه نفوذاً اقتصادياً) وتوسع خيارات التصدير أمامه ما يعزز حضوره في الأسواق العالمية ويقلل من المخاطر المحتملة لاعتماده على منفذ تصديري واحد. (المسافة بين كركوك وبانياس تقدر بنحو 800 كلم متر مربع في حين أن المسافة بين البصرة وميناء العقبة تقدر بنحو 1700 كلم متر مربع من دون احتساب المرور عبر قناة السويس ما يرفع المسافة والتكاليف).

– التحديات والتدخلات

هناك من يقلل من أهمية إعادة تشغيل خط كركوك بانياس بسبب التكاليف العالية والمشهد الإقليمي المعقد والتدخلات الدولية التي لن تسمح بخريطة جيو اقتصادية في المنطقة لا تراعي مصالحها، وعليه فإنه حتى في حال النجاح بتشغيل الخط سيبقى خاضعاً للاعتبارات والتدخلات وبما يقلص جدواه الاقتصادية المرجوة.
عملياً يصنف الاقتصاديون هذه التحديات بثلاثة:
أولها الأمن، إذ يمر الخط عبر مناطق لا تزال خارج سيطرة الحكومة السورية، حيث تنشط خلايا تنظيم داعش وجماعات مسلحة أخرى، ولا بد أن يكون هناك ضمان كامل للأمن على طول الخط كشرط أساسي للوصول إلى العوائد الاقتصادية المرجوة.
ثانيها، الحالة الفنية، فالخط الحالي قديم ومتآكل وتعرض للتلف في عدة مناطق بشكل لا يمكن إصلاحه، فهو يعود إلى خمسينيات القرن الماضي وبالتالي هناك حاجة لإنشاء خط جديد كلياً أو تعديل المسار وفقاً للوضع الميداني.
ثالثها، الحالة المالية، فبناء خط جديد سيستغرق مدة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات، وسيتطلب ميزانية تتراوح ما بين 4 إلى 5 مليارات دولار تشمل الأنابيب ومحطات الضخ ومراكز المراقبة والأمن.

تشغيل حط كركوك- بانياس هو قرار سيادي متبادل أكثر منه سياسي أو اقتصادي من دون أن يعني ذلك أن البعد الإقليمي/الدولي لن يكون حاضراً أو أنه لن يمثل تحدياً إضافياً على طريق النجاح

لا شك، الحكومتان السورية والعراق بصورة كل ذلك، ولكن ليس من المجدي اقتصادياً لكليهما التوقف والاستمرار في تعداد التحديات والعقبات واستعراض التدخلات. إذا كانت الخسائر قائمة وكبيرة وإذا كان بالإمكان احتواؤها وتحويلها مرابح بأعلى المستويات، ولو بعد 3 سنوات، وهي ليست مدة طويلة لمشروع إستراتيجي ضخم كخط نفط كركوك بانياس، فلماذا النكوص والتراجع ولماذا المراوحة في المكان؟
عندما تعلن كل من سوريا والعراق عزمهما إعادة تشغيل خط كركوك بانياس فلا شك أن هذه الإعلان ليس من فراغ، ولا بد أن مقومات وازنة دافعة محفزة تقف خلفه.

– في القراءة الإقليمية/الدولية

إعلان الوزير البشير عن زيارة قريبة للعراق، وحصر هدف الزيارة بإعادة تشغيل خط نفط كركوك- بانياس لا بدّ أن يدفع باتجاه توسيع قراءة معادلات القوة والنفوذ في المنطقة، حيث تتجدد رهانات الجغرافيا السياسية على مسارات مفتوحة على جميع السيناريوات. خط كركوك بانياس ليس مجرد ناقل للنفط، بل مقياس لمصالح إقليمية دولية غاية في التعقيد والتشابك، خصوصاً لناحية النظرة الدولية الحالية لكل تحرك تقوم به سوريا (والعراق بطبيعة الارتباط الجغرافي) وعموم دول المنطقة، ووضعه أي تحرك في إطار إعادة التموضع والموقف منها. ولا يخفى أن خط كركوك بانياس – منذ تدشينه في عام 1932 – لم يخرج من مهب العواصف السياسية التي توالت على المنطقة (وعلى سوريا والعراق والعلاقات بينهما) والتي قوضت كل تكامل اقتصادي بين دولها، خصوصاً مشاريع الطاقة الحيوية، فانحصر التعاون الاقتصادي في أدنى المستويات وفي أضيق جغرافيا.

– لمحة تاريخية

– خط أنابيب كركوك ـ بانياس، أحد أقدم مسارات تصدير النفط في منطقة الشرق الأوسط.
– التدشين كان في ثلاثينيات القرن الماضي (1932) والتنفيذ كان في عام 1952 من قبل شركة «بريتش بتروليوم» البريطانية، والهدف نقل النفط الخام من الحقول الغنية في كركوك شمال العراق إلى ميناء بانياس على ساحل البحر المتوسط.
– يمتد لمسافة تقارب 800 كلم مربع، وصُمم بطاقة ضخ تصل إلى 300 ألف برميل يومياً.
– مع إن المشروع شكل ركيزة إستراتيجية في تجارة الطاقة الإقليمية إلى أن تشغيله تعرض لتأجيلات عديدة على مدى العقود السابقة بسبب الأزمات السياسية والاضطرابات والحروب التي اجتاحت المنطقة (ولا تزال).
– استمر العمل بالخط منذ تأسيسه بصورة متواصلة حتى عام 1980 وتوقف حقبة طويلة منذ أوائل الثمانينيات مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، ليعود إلى العمل عام 1997 قبل أن يتوقف مجدداً عام 2003.
– في عام 2007 توصل العراق وسوريا إلى اتفاق لإعادة تأهيل الخط ، غير أن العقد المبرم مع شركة «ستروي ترانس غاز» التابعة لمجموعة «غازبروم» الروسية أُلغي عام 2009، وذلك نتيجة ارتفاع التكاليف التي قدرت حينها بـ8 مليارات دولار.
– في عام 2010 أعيد الضخ عبر الخط للمرة الثالثة، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً نتيجة التدمير الممنهج الذي طاله نتيجة الأعمال العسكرية وتعرضه للتدمير والسرقة خلال سنوات الحرب، خصوصاً في المناطق التي يمر عبرها.
– في عام 2019 تم طرح إعادة تشغيل الخط ضمن مشاريع التنويع النفطي في وزارة النفط العراقية، غير أن تصاعد النفوذ الإيراني في كل من سوريا والعراق حينها عطل المشروع لصالح تمرير النفط عبر الأراضي الإيرانية.
رغم كل ذلك فإن هذا الخط لا يزال يُوصف بالإستراتيجي، ولا يزال العراق يدفع باتجاه إعادة تشغيله، وفي حين أن النظام السابق لم يستجب بالصورة المطلوبة إلا أن القيادة السورية الجديدة يبدو أنها تتجه بصورة جدية نحو تجديد هذا الخط واستثماره في مساري الأمن الطاقوي والنهوض الاقتصادي.

Leave a Comment
آخر الأخبار
انطلاق المرحلة الثانية من مشروع تعزيز القدرة على الصمود المحلي بسوريا "BLRS" في ندوة حول أمراض الزيتون..  اتحاد فلاحي اللاذقية: المزارعون الأكثر معاناة.. والقطاع بحاجة إلى التكا... سوريا- العراق.. تقارب اقتصادي يعيد خط كركوك- بانياس إلى الواجهة.. أمن الطاقة وتنويع مسارات التصدير و... وزير الثقافة يفتتح فعاليات "حمص تاريخ يُروى وثقافة تُبنى"من قصر الثقافة عمّان محطة اختبار أخرى للمسار السوري.. اجتماع سوري أردني أمريكي.. هل يكون الخيط الأول في حياكة قماشة... سوريا في المركز الثالث عالمياً بجائزة مدارس التميز البرمجي للموسم الحالي إنقاذ القطاع مرهون بتطبيق قرار منع المجمّد.. موجة الحر تفتك بقطعان الدواجن رئيس غرفة زراعة حلب متفائل بإنتاج فروج محلي وفير يغطي الاحتياجات اليومية.. ولا غلاء بأسعار المادة هل نجمّل ملامحنا أم نخفي هشاشتنا؟.. عمليات التجميل سباق محموم خلف صورة مثالية لا تعكس الواقع أولمبينا إلى لبنان استعداداً لكأس آسيا